عندما تخط الاتفاقيات والمعاهدات أو الوعود بين الشعوب، في غالب الأمر، فإنها تكون بين جهتين إما متقاتلتين وإما متحالفتين ضد طرف آخر، وما يضمن هذه الاتفاقيات هو المصالح المشتركة، والقوى المتكافئة. ولم يشهد التاريخ على أمم متصارعة غير متكافئة القوى قامت بعقد اتفاقيات فيما بينها، إلا وكانت الإتفاقية على حساب الطرف الأضعف. وإذا تقدمنا عبر التاريخ في قراءة واقع منطقتنا العربية، والجزء الشرقي من منطقة غرب آسيا فمنذ بداية الحرب العالمية الأولى، تم ترتيب التحالفات بما يتناسب مع الإستعمار الحديث.
توزعت المنطقة بين احتلالات الفرنسيين والبريطانيين، فاحتلت فرنسا معظم شمال أفريقيا، ما عدا مصر والسودان، واحتل البريطانيون منطقة آسيا، بما فيها إيران ما عدا سورية الكبرى، أي سوريا ولبنان، اذ توزعت القوتان الإستعماريتان الكبرتان سواحل شرق المتوسط وغربه بكلتيهما. وحال الأمم في المنطقة استمر على هذا المنوال حتى أعيد ترتيب القوى بعد الحرب العالمية الثانية، وأعلن الصهاينة دولة الكيان العبري في فلسطين، وازداد النفوذ الأميركي، والذي لم تشهد معه المنطقة أية اتفاقيات أو تعهدات أو ترتيبات تم احترامها أو يمكن الثقة بها.
خلال الفترات السابقة لإعلان تأسيس دولة "اسرائيل"، تلقى العرب وخاصة في فلسطين الوعود الكثيرة، والتي ما إن انتهت الحرب العالمية الثانية، حتى بان مدى الكذب الذي مارسته قوى الإنتداب في المنطقة، وكم باعت واشترت بأراض الدول العربية، والتي يعيش سكانها عليها فأعطى الفرنسيون جزيرة كليكية في شمال سوريا للأتراك ومن ثم تم فصل لواء اسكندرون عن سوريا في العام 1939. وفي المقابل تم وعد اليهود بوطن قومي لهم في فلسطين، وقُسمت فلسطين إلى ضفة شرقية، إمارة شرقي الأردن اقتطع لها جزءً من بادية العراق والشام، وضفة غربية في فلسطين. جاء كل ذلك في وقت وعدت به الدول العربية بمنحها الإستقلال التام وخاصة خلال الحرب العالمية الثانية، مقابل مساعدتها على دخول الشباب العربي الحرب مع الدول المستعمرة من أجل هزيمة النازية، وهذا ما لم يتحقق. فانطلقت الثورات والمظاهرات في الدول العربية منددة بالإستعمار وباحتلال فلسطين، حتى حصلت كل دولة منها على استقلالها منفصلة وتم تمزيق البلاد العربية.
صحيح أن العين كانت دائماً على فلسطين، وسببت القيود المفروضة من قبل الحكومات العربية عجز وصول المقاومين إليها. ومع هذا فأهل فلسطين لم يتوقفوا عن قيادة نضالهم من الداخل وفي الخارج. واللافت أنه كلما عادت الإنتفاضات والثورات للإنطلاق، عادت وعود الدولتين لتطفو فجأة على السطح في محاولة لتهدأة التحركات، وخاصة وعود اتفاقية أوسلو، التي تضمنت: استقلالية قرار الدولة، وحرية تنقل الفلسطينيين بين المعابر، وإطلاق سراح الأسرى، ووقف الإعتقالات التعسفية والإدارية، واحترام حقوق الإنسان الفلسطيني، ووقف الإستيطان على الأراضي الفلسطينيية، وهدم المستوطنات المخالفة، وجاءت بموجب معاهدات واتفاقيات موقعة، ولكن لم يلتزم بها الصهاينة، وخالفوا كل بند فيها مخالفة صريحة. إذا كانت الإتفاقيات المكتوبة لا تلزم الصهيوني والأميركي والغرب بشكل عام، فماذا عن التعهدات الشفهية وكيف يمكن الوثوق بها؟
في العام 1967، وخلال انشغال مصر، في زمن الرئيس جمال عبد الناصر، بالحرب في اليمن، تلقت مصر يومها تأكيدات قوية من السوفيات، الذين تحدثوا شفهياً مع الولايات المتحدة، عن الهجوم "الإسرائيلي" المحتمل على مصر. وكان التأكيد أن الأمر سيقتصر على ضربة سريعة لمصر وستقوم الأخيرة بالرد عليها. وأكد الأميركيون للسوفيات، بأن الكيان لن يقوم بمهاجمة الأراضي السورية أو حتى الأردن. ولكن ما كشفه أحد الجنود الأميركيين، جيمس م اينس، والذين كانوا على متن سفينة الإستخبارات الأميركية "يو اس اس ليبرتي" في كتابه " الإعتداء على ليبرتي"، أن "اسرائيل" قامت بقصف السفينة وإعطابها مباشرة قبل الهجوم على الجولان" وأن الغواصات البريطانية والإيطالية والفرنسية كانت رابضة مقابل سواحل غزة. عملٌ، أراد الصهاينة والأميركيون منه إخفاء قرار توسيع الهجوم، عبر إعطاب السفينة التي جرت جراً إلى شواطئ فلوريدا بعدما قتلت "خطأً" عدداً كبيراً من الجنود الأميركيين دون الإعتذار لأميركا أو أهاليهم. قرار احتلال الجولان كان قراراً صهيونياً أميركياً مشتركاً.
كتب اليكساي ميخايلوفيتش فاسيلييف، على موقع أورينت 21، عن الوعد الأميركي للسوفيات، وترجمه وأعاد نشره موقع مونت كارلو في 26 حزيران/ يونيو 2017.
كتب فاسيلييف تحت عنوان "الإتحاد السوفييتي ودوره في نكسة حزيران/ يونيو 1967"، بناء على مقابلة أجراها مع ا. د. بيرلين، نائب مدير قسم الشرق الأوسط في وزرارة الخارجية السوفياتيه آنذاك، ونقل عنه: "إنه من المؤكد أن الولايات المتحدة كانت تود إحراج عبد الناصر والبعث في سوريا، أو الإطاحة بهما، الواحد تلو الآخر أو الإثنين معاً". ويكمل الكاتب أن الولايات المتحدة بمخالفتها الإتفاق قد نالت من هيبة الإتحاد السوفييتي حليفهما، لأنه لم يستطع فرض حفاظ الولايات المتحدة على وعودها. إن ما يتعلق بالتزام الصهاينة بضمانات أميركية هو أمر لا يمكن التعويل عليه بأي شكل من الأشكال.
الأمر تكرر في مراحل مختلفة من الصراع مع العدو الصهيوني، ومنها ما حدث في الإتفاقيات المختلفة التي عقدت من كامب ديفيد 1979 مع مصر، إلى أوسلو 1993، إلى وادي عربة 1994، إلى محادثات طابا 2001. ولا ننسى أنه عندما اجتاح الصهاينة لبنان في العام 1982، وأرعد الأميركيون على لسان رئيسهم، رونالد ريغان، حول وصول الجيش الصهيوني إلى بيروت مستنكرين، لأنهم انحرفوا عن الهدف الأساسي وهو إبعاد الفدائيين إلى شمال الليطاني، ولكن كذب كل من الأميركيين والصهاينة، وانتشار المارينز الأميركي والمارينز الفرنسي في بيروت كان هدفه حماية الصهاينة وإخضاع لبنان للقرار الغربي الصهيوني، وتوقيع اتفاقية 17 أيار على غرار اتفاقية كامب ديفيد للإستسلام، وهناك معلومات مؤكدة أن الهدف الصهيوني من اجتياح لبنان 1982 كان الوصول إلى دمشق من أجل قلب النظام السوري، الذي يدعم المقاومات في لبنان وفلسطين.
بناء على ما سبق، لم يكن من الحكمة العودة على بدء وتصديق الضمانات الأميركية، التي تحدث عنها وزير الخارجية اللبناني، بأن الصهاينة لن يضربوا في بيروت انتقاماً لأطفال مجدل شمس، العرب السوريين. ضمانات كاذبة، عبارة عن جرعة مخدر أعطت الصهيوني فرصة لقتل أبرياء، بحجة اغتيال قيادي كبير في حزب الله، السيد فؤاد شكر، في وسط حي سكني تسبب بشهادة مدنيين، ليس إلا مثال على كذب وعود الزوار الأميركيين لحكومة لبنان. ومع ذلك يصرح الوزير بو حبيب في السادس من هذا الشهر لجريدة الشرق الأوسط بأن لبنان يسعى: "...إذا كان هناك لا بد من رد، ألا يكون جماعياً وألا يكون قوياً بحيث يقودنا إلى حرب واسعة".
بداية سيادة الوزير، قرار الحرب في منطقتنا يتخذ بشكل مشترك بين الأميركيين والصهاينة، والأول يدعم الثاني من أجل بدء الحرب في منطقتنا، وما حدث في سوريا وليبيا اليمن والسودان ومؤخراً في فلسطين، هو خير دليل. وثانياً، منذ اللحظة الأولى لقيت قرارات الكيان دعماً غير محدود من إدارة جو بايدن كما باقي الإدارات الأميركية السابقة، ولكن هذه الإدارة بالذات كان سوء طالعها بخروج أخبار الحرب عما اعتادت عليه سابقاً من إحكام السيطرة على وسائل إعلامها. اذ لعبت وسائل التواصل الإجتماعي دوراً هاماً في كشف المستور الصهيوني والأميركي مما انعكس على الإدارة الأميركية المأزومة بالإنتخابات القادمة. وثالثاً، المقاومات في جميع أنحاء العالم ومنها لبنان وفلسطين، تأخذ القرار بالتصدي والصمود وتحرير الأوطان، وهي لم تأخذ يوماً قرار بدء الحرب. وبالتالي، لا يمكن التعويل على أية ضمانات يكون أحد أطرافها خادعاً والآخر ضعيفاً. ولو فقد لبنان قوته في مقاومته، لفقد يده العليا وقدرته على كف يد الصهاينة فيه.
هي اللعبة الأميركية نفسها تتكرر اليوم، حي يرسل الأميركيون رسلا ووفودا ورسائل الى طهران، تطلب من الجمهورية الإسلامية ان لا ترد على العدوان الإسرائيلي على طهران واغتيال اسرائيل الشهيد إسماعيل هنية، او ان ترد بشكل ضعيف، وفي المقابل "ستعمل واشنطن على وقف اطلاق النار في عزة" ومفردات من قبيل "اننا اقرب من أي وقت مضى من وقف اطلاق النار في غزة"، واذا سلمنا جدلاً ان الأميركي صادق هذه المرة ( وتاريخه يقول غير ذلك فمن شبّ عل شيء شاب عليه) فهل سيقبل نتنياهو بوقف الحرب؟!، هل سيقبل بشروط حماس ومحور المقاومة؟ هل سيتخلى عما يصفه إنجازات بعد عشرة أشهر من الحرب؟ هل سيذهب برجليه الى السجن وينهي حياته السياسية، بالطبع لا.
هي عملية تلاعب أميركية جديدة الهدف منها حماية الكيان وإخراجه من المأزق، إلا ان المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، وموقف إيران والمحور الذي سمعته جميع الوفود الغربية والعربية ان الرد العقابي لإسرائيل هو رد قطعي ونهائي، وسيكون فاعلاً وقويا واستثنائيا أسلحة نوعية فاتحة، الرد العقابي على العصابة الصهيونية في فلسطين المحتلة لردعه وتأديبه.
-كاتبة صحفية، عضو في الرابطة الدولية للخبراء والمحللين السياسيين / ماجستر في العلاقات الدولية من جامعة LAU