إن ما يعيشه الكيان المؤقت ليس وليد لحظته، بل أن هذا الكيان الهجين تسكنه الانشقاقات والفروقات في تفاصيله منذ نشأته، وحتى قبل نشأته. ولا يمكن رؤية الصراع في الكيان المؤقت على أنه صراع بين المتدينين والعلمانيين لأن ذلك شكل من أشكال التطبيع المعرفي. فالكيان المؤقت له خصوصيته وقوانينه، فمعظم المتدينين فيه ليسوا متدينين ومعظم العلمانيين ليسوا "علمانيين" أيضاً بالمعنى المألوف للكلمة (فهم ليسوا علمانيين جزئيين وإنما علمانيون شاملون بدرجة متطرفة). في حال محاولة إعادة تقسيم أعضاء المجتمع الصهيوني من منظور الاقتراب أو الابتعاد عن كل من الدين اليهودي والأيديولوجية الصهيونية، فيمكن تقسيمهم إلى أربعة أقسام وليس الى قسمين اثنين:
وهؤلاء يؤمنون باليهودية ديناً توحيدياً ويرون أن اليهود شعب بالمعنى الديني للكلمة أساساً، وأن العناصر القومية الإثنية في الدين اليهودي (مثل العودة والارتباط بالأرض) هي في أساس مفاهيم دينية لا يمكن تحقيقها إلا بمشيئة الإله. وهذا الفريق معاد للصهيونية رافض للدولة الصهيونية، بل يرى فيها فعلاً من أفعال الشيطان. ولا تزال جماعة الناطوري كارتا (نواطير المدينة) من أهم الجماعات التي تمثل هذا التيار وتطالب بالانضمام لحكومة فلسطينية في المنفى، وهي تكافح ضد الصهيونية ولها نشاط داخل وخارج الكيان الصهيوني.
إذا كان المتدينون يرون أن على اليهودي الانتظار، ويرون العودة إلى صهيون فعلاً من أفعال الهرطقة (داحيكات هاكتس، أي التعجيل بالنهاية) فإن مسار التاريخ المقدس بالنسبة لهم يأخذ الشكل التالي: نفي – انتظار – عودة بمشيئة الإله. ومع هذه تغلغلت الصهيونية في صفوف المتدينين ونجحت في "صهينة" قطاعات كبيرة منهم (في الواقع الغالبية العظمى ممن يُسمون بالمتدينين) بحيث تم طرح تصور مفاده أنه يجب العودة قبل ظهور الماشيَّح دون انتظار لمشيئة الإله للإعداد لعودته ويأخذ التاريخ الشكل التالي: نفي، عودة للإعداد لمقدم الماشيَّح – انتظار – مقدم الماشيَّح.
ومن الواضح أن الشكل الجديد يسقط العنصر الديني إلى حدٍّ كبير بحيث تصبح العودة فعلاً من أفعال البشر يتم تحت مظلة المنظمة الصهيونية، وبالتالي استطاع هذا الفريق المساهمة في مشروع الاستيطان الصهيوني والمشاركة في كل النشاطات الصهيونية – الاستيطانية والعنصرية والإرهابية.
ولا بد من إدراك أن المعسكر الصهيوني الديني ليس معسكراً واحداً. فالانقسام السفاردي الاشكنازي يجد أصداءه داخله.
كانت اليهودية كنسق ديني في أوائل القرن التاسع عشر مع ظهور المجتمع الحديث في أوروبا في حالة أزمة عميقة، إذ يبدو أنها تجمدت وتحجرت بحيث أصبح من العسير عليها أن تتطور. وقد ظهور الصهيونية وطرحت نفسها على أنها ستحل محل اليهودية كمصدر للهوية، بحيث تصبح اليهودية انتماءاً إثنياً بالدرجة الأولى (على طريقة المشروع القومي في الغرب)، ولكن هذه الإثنية اليهودية لا تستند إلى تراث تاريخي طويل كما هو الحال مع الهويات الغربية كالفرنسية والإنكليزية، وإنما تستند إلى التراث الديني اليهودي، كما تستند الى اعتذاريات، هي في جوهرها مطلقة مستمدة من المنطق الديني مثل حق اليهود الأزلي في أرض الميعاد. ولذا من الممكن أن نجد شخصاً ملحداً موغلاً في الإلحاد مثل بو غوريون يقتبس التوراة بل يقوك بتفسيرها. وقد استولى الصهاينة على الخطاب الديني اليهودي بكل ما فيه من إطلاق ديني.
هذا الفريق العلماني الشامل هو من أسس المنظمة الصهيونية العالمية، وهو من أقام الكيان المؤقت.
وهم فريق صغير من اليهود الذي يرفضون الدين اليهودي، ولا يقبلون الصهيونية، أو يقبلون صيغة صهيونية يمكن تصنيفها على أنها صيغة علمانية، بمعنى أنها لا تبحث عن مسوغات لنفسها في الدين اليهودي ولا تخلع على نفسها أيّ إطلاق، وأهم من يمثل هؤلاء في الكيان المؤقت جماعات صغيرة وشخصيات هامشية مثل حركة حقوق المواطن.
الأيديولوجية الصهيونية تستبعد الفريق الأول تماماً وتستبعد الأخير بدرجات متفاوتة وتتوجّه للفريق الثاني والثالث، وقد نشأ بينهم تحالف وتفاهم منذ المؤتمر الصهيوني الأول.
لا شك أن تناقضات الكيان المؤقت وجماعاتها تشكل عوامل لانفجاره، وهي مؤشرات إضافية لقرب زوال إسرائيل الذي تحدث عنه الإمام الخميني الراحل.