الأربعاء 29 تشرين ثاني , 2023 02:50

بعد حرب غزة القضية الفلسطينية تدخل المنطقة الرمادية

دمار في غزة

مازالت إسرائيل تتحدث عن عودة الحرب في غزة رغم الهدنة المؤقتة المعلنة والتي مازال ملف الأسرى وتبادلهم الطاغي في المشهد العام. صحيح ان مخطط الحكومة الصهيونية اليمينية الحاكمة الآن يقضي بإخراج الفلسطينيين عموماً من أرض فلسطين بعد إكراههم على الهجرة بسبل مختلفة من مداهمات، واعتقالات، وقتل، وترهيب، وبناء المزيد من المستوطنات، وغيرها، لكن بالقدر الذي كانت فيه اسرائيل تخطط كانت المقاومة أيضا تعد لمعارك أكبر وتقوم بالتجهيز والتدريب والتسليح وجمع المعلومات والاستعداد للمواجهة.

المقاومة كانت تراقب الأحداث السياسية في الارض المحتلة عن كثب، وتعلم ان السكان الصهاينة منقسمون على أنفسهم، ويوشك التصادم ان يحدث بين الطرفين المتصارعين، وان الولايات المتحدة باتت تحس بالعبء من وجود اسرائيل بمنطقة الشرق الاوسط عموما، وأنها لا تقبل بأي شكل من أشكال التهدئة التي تحتاجها امريكا في ظل الظروف الدولية الضاغطة، وخاصة الحرب في أوكرانيا.

إن واحدة من تجليات رغبة اسرائيل في استمرار الحرب على غزة هو مواصلتها المداهمات في الضفة الغربية، حيث ارتفع عدد الشهداء إلى نحو 238 منذ بدء معركة طوفان الأقصى، وحتى يوم الهدنة في 23-11-2023. فيما يميل المزاج العام الإسرائيلي إلى ان تستمر الحرب حتى بعد الإعلان عن الهدنة لأنهم يعتقدون ان معركة طوفان الاقصى هي معركة وجود وبقاء المقاومة يعني ان الوجود الاسرائيلي مهدد، ولا يستطيع أحد ان يمارس حياته في ظل خصم محترف للقتال، ومدجج بالسلاح والعقيدة، ولديه ثقافة تفصيلية عن جميع مواقع المؤسسات الاسرائيلية ومهامها.

يقول الباحث في الشؤون الأمنية والشرق الأوسط في جامعة تل أبيب إيال زيسر: إن البعض يرى في الحرب على غزة حرب استقلال ووجود لتحديد مصير إسرائيل، ومستقبلها في الشرق الأوسط على مدى 75 عاما مقبلة"، ولكن السؤال الاكثر حرجاً للقيادات السياسية الصهيونية، هل تملكون ان تواصلوا الحرب على غزة؟ المتحدثون باسم الحكومة الصهيونية صرحوا ووعدوا بأن الجيش الإسرائيلي سيستمر في القتال والمعارك البرية في جنوب غزة عند انتهاء الهدنة!!

إن صدمة الخراب والقتل الذي مارسه الجيش الصهيوني بحق اهالي غزة، وصمود المقاومة حتى آخر لحظة من إعلان الهدنة جعلت العالم بأجمعه يرقب ما يحدث، وان يقول كلمته عبر تظاهرات واحتجاجات واسعة لم تخلُ منها الا شوارع الدول المحكومة بالنار والحديد. وجميع هذه الاحتجاجات جعلت الأنظمة والأحزاب فيها تعيد ترتيب أولوياتها في الانتخابات وغيرها فيما هناك شبه إجماع دولي على حل للقضية الفلسطينية يفضي الى أمرين "حل الدولتين والعودة الى حدود 1967".

إن اسرائيل منذ احتلالها لأرض فلسطين عملت على تفوقها العسكري، وحين تمت مهاجمتها من قبل الجناح العسكري لحماس في السابع من تشرين كانت تتبوأ الرقم 18 بين الدول الأقوى عسكرياً في العالم، وفق مؤشر "غلوبال فاير باور"، بينما تحتل المرتبة 12 بين الدول المصدرة للسلاح. ويبلغ الإنفاق العسكري السنوي 16 مليار دولار، وتلقت دعماً عسكرياً أميركياً بقيمة 58 مليار دولار في الفترة ما بين 2000 و2021، ناهيك عن نقل أمريكا لبوارجها الحربية الى منطقة الشرق الاوسط مع بدء الهجوم.

في معركة طوفان الاقصى فقدت اسرائيل ورقة تفوقها العسكري بعد ان خسرت في يومين 700 قتيل وألفي جريح، وعدداً كبيراً من الأسرى خلال العملية التي شنتها عليها كتائب عز الدين القسام.

كما ان وصول صواريخ المقاومة سواء من غزة او جنوب لبنان او سوريا واليمن الى الأبعد من الاراضي المحتلة والتي لا تتعدى مساحتها 20 كم2 جعل جميع من يعيش بالأرض المحتلة في حال من القلق، سواء كان يملك رأس مال، او مشروع صناعي، او سياحي، او مصرفي، وصولا الى صاحب المتجر الصغير، فقد تيقن جميع الصهاينة ان سرديات وجودهم ومصيرهم و"أرض الميعاد" مجرد وهم، وجرّةٍ كسرتها حماس على رؤوسهم!

لا يريد أحد من الصهاينة ان يصدق ما حدث يوم  7تشرين الأول، لذا تجدهم ما زالوا يتحدثون عن تهجير، وتدمير، وإلغاء الشعب الفلسطيني، لكنهم أخيراً سيعرفون ان المقاومة ليست مجرد بندقية انما هي مشروع دولة، وتحرير ارض، وأظنهم اكتشفوا كيف أدار المقاومون معركة طوفان الاقصى بحرفية، ومهنية عالية، وكيف أداروا التفاوض في الهدنة، والاسرى ايضا، في نفس الوقت اكتشفوا عمق القضية الفلسطينية، وشعبيتها على طول الكرة الارضية وعرضها، وكيف فضح الإعلام عقيدتهم وجرائمهم، والاكتشاف الاكبر كيف شاركت فصائل المقاومة الاخرى في لبنان والعراق وسوريا واليمن وفلسطين في القتال وتشتيت تركيز العدو الصهيوني واستنزافه على عدة جبهات، فكان تضامناً لافتاً لكثير من الجهات التي لم تكن ترى بالمقاومة ما رأته في هذه المعركة من ثبات وشجاعة دون ان تستطيع الحكومات الرسمية ان توقف بأسهم وشدة ضرباتهم

ماذا لو واصلت اسرائيل الحرب على أهالي غزة؟

الدلائل تقول ان هذا الخيار بعيد الان، وفيه مغامرة كبيرة، وكما يوصي المعلق السياسي الإسرائيلي البارز ناحوم ابارنياع بخفض سقف التوقعات، ويقول إنه “بدلاً من الخروج يومياً بتصريحات مطنطنة حول تدمير حماس يفضّل خفض اللهجة، لأنها لا تُدخِل الإسرائيليين فحسب في بلبلة، بل الأمريكيين والمصريين والقطريين أيضاً، الذين نحتاجهم للوساطة، فالمصداقية حيوية في المفاوضات".

إن رغبة رئيس وزراء حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو بمواصلة الحرب على غزة تبقى في بعدها السياسي لإدامة بقائه في السلطة، والخلاص من تهم الفساد غير كافية، ومثلما نشر الكاتب الروسي ألكسندر ستافير "تحتاج القيادة الإسرائيلية إلى الحرب للحفاظ على السلطة. ومن دون تحقيق نصر حقيقي، لن يبقى نتنياهو على كرسيه الدافئ فترة طويلة"، لذا تجد ان نتنياهو ليس له من سبيل آخر سوى الحرب وهذا ما يقوله نتنياهو نفسه" أن إسرائيل ستعود بكل قوة لتحقيق أهدافها في غزة بعد انتهاء الهدنة"، ويؤكد "أنا مقتنع بأننا سننجح في هذه المهمة لأنه ليس لدينا خيار آخر"، إذن ليس لديه خيار آخر، والحقيقة ليس لإسرائيل من خيار آخر لأن الذهاب الى التفاوض يعني نهاية الكيان الإسرائيلي وزواله. وإذا واصلوا الحرب ستستمر لأشهر او أكثر مثلما أكد القادة الميدانيون لجيش الاحتلال، وبذا ستدخل اسرائيل في أتون ازمة اقتصادية، فقد تواجه صعوبات لم تشهدها من قبل، وهو ما دفعها لمطالبة الولايات المتحدة بدعمها بمليارات الدولارات.

أما عسكرياً فقد باشر بعض الضباط الصهاينة بالهروب، وعدم المواجهة مع ابطال المقاومة، فيما ترى حماس ان التهديد الإسرائيلي باستئناف الحرب فارغ، وهو للاستهلاك الداخلي.

يبدو لنا ان حرب غزة أوقفت القضية الفلسطينية عند مفترق طرق وستبقيها في المنطقة الرمادية الى حين، فالتوازنات الدولية في غرب آسيا،  وما تشهده من صراعات النفوذ، هي من تحدد مستقبل القضية الفلسطينية، ويبدو انها صعدت على السكة، وبدأت تظهر ملامح الحل، ولا أظن ان صناعة دولة فلسطينية على الطريقة الاميركية مقبول، وذلك بان تكون غزة تحت وصاية السلطة الفلسطينية، ولا الحل المصري "دولة فلسطينية على حدود 1967منزوعة السلاح".


الكاتب:

د.محمود الهاشمي

- كاتب وباحث عراقي




روزنامة المحور