الأربعاء 24 كانون الثاني , 2024 12:30

معضلة المضائق وإغلاق البحر الأحمر أمام الصهاينة

مقاتل يمني يراقب السفن العابرة في البحر الأحمر

قصفُ الأميركيين لليمن خلال الأسبوعين الماضيين وإعلان بدء عملية "حارس الإزدهار"، ليست أولى العمليات ضد اليمن، فحصار اليمن بدأ منذ العام 2000، بعد العملية التي نفذتها "القاعدة" على المدمرة "يو اس اس كول" في 12 تشرين الأول/ أكتوبر، بينما كانت تتزود بالوقود، وبناء عليها اعتبر بيل كلينتون أن اليمن مكان تنشط فيه جماعات القاعدة، ومنذ ذلك الوقت واليمن يقع في دائرة الإستهداف الأميركي.

 يبدو أن المثل اللبناني سيبقى منطبقاً على الأميركيين بما يتعلق باليمن: "حاطينك برأسنا"، بما معناه أن الأميركيين لا يعتزمون التراجع بمواقفهم وسيستمر التصعيد ولعبة عض الأصابع! قد يدفع غرور الأميركي للظن بأن اليمن سيصرخ أولاً، وأن باب المندب سيعود ليصبح ملعبهم مرة أخرى، ولكن مهلاً بين عودة أمريكا للسيطرة على البحر الأحمر وبين ما قرره اليمن ويفعله من أجل كسر شوكة اسرائيل وأمريكا وتقويض النظام العالمي الجديد والزمن طويل!

نفذت القوات المسلحة اليمينية، يوم الإثنين الماضي ضد سفينة الشحن الأميركية "أوشن غاز"، وهو دليل فعلي على أن الزمن طويل. لأسباب مهمة منها أن القضية بالنسبة للأميركي لا تتعلق بحماية "اسرائيل" وأمنها فقط، الأمر بالنسبة للأميركي يتعلق بأمن أميركا وأمن البحار، وتأتي الضربات والقصف على اليمن بحسب السيناتور الأميركي مايكل ماك كول في سياق دفع ما وصفه "العدوان الإيراني"، من أجل "استعادة الردع". اذ يهدف الأميركيون أن تسود "الحالة الساكنة"، أو حالة راهنة، في البحر الأحمر تريحهم، فيما هم يستمرون بدعم الصهاينة في حربهم على غزة خلال الأيام، أو الأسابيع، أو الأشهر القادمة، فيما يستمر تدفق السلاح الذي يقصف ويُقتل به الفلسطينيون. وضمن الخطة أو الخطط التي يرونها مناسبة، بعد انتهاء معضلة غزة، يبدأ الصهاينة بالتعاون مع حلفائهم في المنطقة، بإدارة أمن البحر الأحمر من جديد. ولم يخطر في بال الأميركي والعالم عندما بدأت معركة طوفان الأقصى بأن فناء "اسرائيل" سيكون فعلياً على يد تضامن عربي، وإنساني طبعاً، وأن لليمن ستكون اليد الطولى فيه، مادام حصار غزة مستمراً. وأن اليمن قال كلمته.

معضلة المضائق للأميركيين

بعد أسبوع من بدء طوفان الأقصى أعلن السيد عبد الملك الحوئي بدء العمليات في البحر الأحمر ومحاصرة الصهاينة ومنع وصول الإمدادات إليهم، حتى ينتهي الحصار على غزة. لم يدخل اليمن مرحلة القتال الحقيقي بعد، لكن الأميركي يحاول استغلال الظرف الإقليمي من أجل تقويض قوة اليمن وحلفائه، فأشاع أن الملاحة في البحر الأحمر مهددة. مع أن هذا الأمن لم يتعرض للخطر حتى الساعة، ولكن الضربات على اليمن تأتي في إطار استعادة السيطرة المطلقة على المضائق والممرات المائية الأهم في العالم باتجاه أوروبا القادمة من جنوب العالم في الشرق، والذي تخرج منه باتجاه ناقلات النفط والبضائع باتجاه القارة العجوز. وهناك مضيق جبل طارق بوابة البحر المتوسط من المحيط الأطلسي، وهو ممر الغاز والنفط الأميركي بعد مقاطعة روسيا إبان الحرب الأميركية معها. وأما مضيق هرمز، فهو ليس فقط بوابة النفط والغاز من السعودية وقطر والبحرين، بل هو الممر الهام لبوارج الأميركي نحو قواعده في قطر والبحرين وأهمها على الإطلاق القواعد عند مضيق باب المندب في جيبوتي، وحتى في اليمن وقد كشف اليمنيون عن وجودها خلال حرب التحالف عليهم. كما أن الممر عبر البحر الأحمر، يمثل الطريق الأهم من أجل تمويل قواعد الأميركي في المشرق العربي، في الأردن في قاعدة السلطي، وفي النقب في فلسطين، وفي التنف في سوريا. واليمن قد جعل أمن هذا الطريق في مهب ريح مجرى الأحداث في غزة.

لذلك فإن تشكل الحلف البحري الأميركي لم يكن هدفه الأساسي دعم الكيان بحسب، ولكن ضمان وصول الإمدادات إلى قواته في قواعده في بلاد الشام من غذاء ونفط وسلاح. كما أن الأميركي يعتبر ان سيطرة اليمن المطلقة على البحر الأحمر تقوّض سلطته على الممر البحري المهم، ولذا فالهدف الأساس في بدء العمليات هو إثبات القوة الأميركية في إجبار اليمن على إدخال السفن مرة أخرى إلى ميناء إيلات دون وقف الحرب على غزة أو الخضوع للقرار اليمني بإدخال الغذاء والدواء والوقود إلى غزة، وما لذلك من تأثير كبير في دعم صمود الفلسطينيين في أرضهم.

تحاول الولايات المتحدة من خلال بناء هذا التحالف الإنتهاء من القلق المتزايد على وجود الكيان، ومن القوة العسكرية الإيرانية النامية في المنطقة، وتعتبرها التهديد الأول لوجود الكيان الغاصب. وانطلاقاً من هذه القناعة فإن الولايات المتحدة تستمر باتهام إيران في دعم الحركات المقاومة، ويسعى الكيان إلى فتح حرب أميركية معلنة عليها. لذا تسعى أميركا من خلال التحالف لإسترداد السلطة على مضيق هرمز، وعلى أمن الملاحة في البحر العربي والذي ترى أنه مهدد بفعل انخراط اليمن كحليف استراتيجي في محور المقاومة في مساندة الفلسطينيين في حرب الإبادة المشنة عليهم.

لم تستطع الولايات المتحدة عبر لقاء الرئيس جو بايدن مع الرئيس الصيني شي جين بينغ ضم بكين لتصبح جزءاً من التحالف، فهناك العديد من الأمور، التي تتعلق بالأمن القومي الصيني ماتزال عالقة ما بين البلدين، وأهمها قضية تايوان، التي ماتزال الولايات المتحدة تمدها بشحنات الأسلحة. اذ تطمح الولايات المتحدة للسيطرة التامة على الملاحة البحرية ليس فقط ما بين البحر المتوسط والمحيط الأطلسي، بل في منطقة المحيطين الهندي والهادي وبالتالي على خطوط التجارة مع شرقي آسيا. وهذا الكلام يعكس أزمة الولايات المتحدة في فرض النظام العالمي الجديد الذي عملت على تكريسه منذ حرب الخليج الأولى، وهو ما صرح عنه جورج بوش الأب في العام 1991، بعد انهيار الإتحاد السوفياتي وتفككه.

إذن ماتزال الولايات المتحدة تحلم بفرض نظامها العالمي الذي أحبط خططه عاملان أساسيان: الأول، صعود كل من روسيا والصين بشكل متسارع منذ العام 2008 وحتى اليوم، وهو تاريخ القمة التي رفض خلالها جورج بوش الإبن انضمام روسيا إلى الناتو وبحضور الرئيس الروسي فلاديمير بوتين شخصياً، والتي اتضح خلالها السعي الأميركي لعزل روسيا ومن ثم تفكيكها. وأما العامل الثاني، فهو تصاعد قوة المقاومات العربية وخاصة في فلسطين، وهزيمة آرئيل شارون وإنسحاب الجيش الصهيوني من غزة في العام 2005 بعد معارك ضارية، عقب انطلاق انتفاضة الأقصى الثانية في العام 2000، وكانت الأخيرة أولى نتائج انتصار أيار 2000 في لبنان. ما أراد الإسرائيلي تحقيقه حينها، هو تماماً ما يسعى إليه اليوم وهو تفريغ غزة والضفة الغربية من أهلها.

ومن خلال قراءة متجددة لأهم أسباب الحرب على لبنان تموز 2006، يمكننا تبيان أن هذه الحرب كانت محاولة يائسة لفك الإرتباط ما بين المقاومة اللبنانية والمقاومة في فلسطين، وهو جزء مهم مما كانت تتحدث عنه غوندليزا رايس، وزيرة الخارجية الأميركية أنذاك، حول إطلاق مصطلح الشرق الأوسط الجديد. تزامنت مع ذلك محاولات الأميركي طوال الوقت لمنع وصول كل من الصين، وعودة روسيا إلى سواحل البحر المتوسط، بعد انهيار الإتحاد السوفياتي، ولكن جميع مخططات الأميركي باءت بالفشل. وكانت أولى نتائج التدخل في سوريا من أجل تقسيمها أملاً في إضعاف المقاومة وحصارها في فلسطين ولبنان، هو عودة الروس إلى شواطئ المتوسط إلى قاعدة حميميم، ومن ثم إمكانية وصول الصين بعد زيارة الرئيس السوري بشار الأسد إلى بكين في أيلول/ سبتمبر العام الماضي من أجل اتمام اتفاقيات مشروع "حزام وطريق"، والتي أعقبها وبشكل لافت طوفان الأقصى، الذي دق المسمار الأخير في نعش النظام العالمي الجديد.

بدأ التورط الأميركي بشكل مباشر في عمليات البحر الأحمر وقصف اليمن، مع ما تحدثت عنه صحيفة وول ستريت جورنال عن وجود سفينة تجسس إيرانية كانت تبحر في البحر الأحمر، وقد اتهم مسؤول أميركي بارز في حديثه للصحيفة بأن إيران "منخرطة عملانياً في تنسيق الهجمات من خلال توفير المعلومات الاستخبارية للحوثيين" أنصار الله. وهذا مرتبط بتصريح السيناتور كول، الذي عمل بشكل مباشر مع النائب الأميركي تيد كروز في العام 2017 من أجل وضع حرس الثورة الاسلامية على قائمة الإرهاب. إذاً العملية تكاملية بالنسبة للأميركي ولا تتضارب التصريحات مع بعضها، بل تتكامل من تصريح بوش الأب وحتى اليوم.

كل هذا يدلل ان بايدن وإدارته لم يعد بإمكانهم تجنب المواجهات من أجل استعادة السيطرة على الممرات المائية، قد يكون التحالف البحري الذي تقوده أميركا ولد ولادة قيصرية وقد تُسبب للمولود بنقص في التروية الدماغية، لكن الإدارة الأميركية تحتاج لإنعاشه وخاصة أن بايدن بات على قاب قوسين أو أدنى من الإنتخابات الأميركية وهو لم يحقق حتى اليوم سوى الخيبات في بلده وخاصة بعد مجازر غزة، وبات بحاجة لانتصار صغير من الواضح أنه لن يحصل عليه. ولكن ما يحصل من ضربات يقع في إطار حرب غير معلنة على إيران، والعين عليها وعلى حركتها في البحار، والتراشقات الأميركية- الإيرانية تنتظر من يصرخ أولاً، خاصة وأن قوى الشرق روسيا والصين وإيران بات لها حديثها الخاص أيضاً حول نظام عالمي جديد.

هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة رأي الموقع


الكاتب:

عبير بسّام

-كاتبة صحفية، عضو في الرابطة الدولية للخبراء والمحللين السياسيين / ماجستر في العلاقات الدولية من جامعة LAU 




روزنامة المحور