أثمر خطاب الحرب العام في بدايات طوفان الأقصى قدرة على صمود الجيش في الميدان، وتراجعاً ملحوظاً لدى الفئة المطالبة بإنهاء الحرب على الرغم من التحليلات والأخبار الكثيرة التي تحدثت عن "تعب" الجيش و"إنهاكه".
ولكن، بعد تسعة شهور على الحرب، تشير أرقام الاستبيانات إلى أن 60 بالمئة تقريباً من الجمهور الإسرائيلي أصبحوا اليوم يطالبون بتنفيذ صفقة تعيد الأسرى وتنهي الحرب. فقد ذكرت صحيفة "معاريف" العبرية إن 54 بالمئة من المستطلعة يؤيدون الاتفاق، و24 بالمئة يعارضونه. (بتاريخ الجمعة 19 تموز2024) فيما أشار استطلاع رأي للقناة 12 الإسرائيلية (في التاريخ ذاته) إلى أن 66% من الإسرائيليين يؤيدون التوصل إلى صفقة مع حركة حماس.
في هذا الإطار، طرأت تحوّلات على خطاب الحرب لدى قادة الكيان الإسرائيلي المؤقت. وسنتناول بالتحليل خطاب كلٍ من رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، ووزير الدفاع يؤواف غالانت.
خطاب الحرب لدى رئيس الوزراء في الكيان المؤقت بنيامين ناتنياهو
يمكن القول في البداية، إنه لا يوجد ما يمكن أن يسّمى ب "التحولات" لأن كلام نتنياهو منذ اليوم الأول للحرب وحتى اليوم قائم على "جملة محدّدات" لم تتغير، فخطاب نتنياهو يحكمه الثبات والعناد القوي والإصرار وعدم التراجع. ومنذ بداية الحرب استخدم أسلوب التعالي الممزوج بالتهديد والوعيد وعدم الاستسلام بل الإصرار على المواجهة.
قدّم نتنياهو في مجمل خطاباته، تحدٍ للقوى الأخرى، في داخل المجتمع الإسرائيلي، لأعداء الكيان في محور المقاومة، وللأميركيين. في الشهر الأول لطوفان الأقصى، لم يتكلم كثيراً، حسم خطة الكيان بقوله: "سنضرب حماس حتى النهاية وسنثأر لهذا اليوم الأسود". وقد برز الاستخفاف بالآخرين في خطابه منذ7 أكتوبر، من خلال عدم الالتفات أو الاعتراف بأي رأي آخر، "الدعوات لوقف إطلاق النار هي دعوات لإسرائيل للاستسلام في مواجهة حماس. هذا لن يحصل.
لم يوجّه أي خطاب مباشر للجنود والعسكريين، (باستثناء مناسبة واحدة أو اثنتين) وكان كلاماً حماسياً.
تتضمن النقاط التالية تحولات خطاب نتنياهو في الفترة الأخيرة:
- متابعة التحدّي لأميركا والعالم (إذا كان علينا أن نقف وحدنا فسنقف وحدنا. إذا لم نحمِ أنفسنا، فلن يحمينا أحد).
- إظهار ولأول مرة بعض اللين المتناقض (إسرائيل مستعدة لتعليق القتال في غزة مقابل إطلاق سراح الرهائن/ لا يمكن قبول مطالب حماس بإنهاء الحرب. إسرائيل لن تقبل شروطاً تصل إلى حد الاستسلام، وستواصل القتال حتى تحقيق أهداف الحرب).
- تكرار ومخاطبة الحسّ الديني (مثلما قلت من قبل، سنقاتل بأظافرنا إذا اضطررنا لذلك. لدينا ما هو أكثر بكثير من أظافرنا، فبهذه القوة الروحية وبمساعدة الرب سننتصر معا. سنفعل ما يجب علينا فعله لحماية بلدنا).
- سوف نحقق أهداف النصر والانتصار سيضمن وجودنا ومستقبلنا، لكن الثمن الذي ندفعه والذي دفعته الأجيال السابقة، باهظ جداً.
وزير الحرب لدى الكيان المؤقت يوآف غالانت
برزت مباني خطاب وزير الحرب من خلال العناوين التالية:
التهديد المباشر للخصم مع الدفع المعنوي للجيش:
- خلال زيارة تشجيعية لجنوده في مستعمرة "المطلة" القريبة من الحدود مع لبنان، بتاريخ 17 ديسمبر2023، قال غالانت باستعراض: "إذا أراد حزب الله أن يصعّد مستوى واحداً، فسنصعد خمسة". هذا التهديد كان قد سبقه (في 11/11) تهديد آخر للرجل، قال فيه: "ما فعلناه في غزة يمكن القيام به في بيروت". ومع اشتداد المعارك وتوالي شهور الحرب لم تتراجع وتيرة التهديد، بل حافظ غالانت على مستواها، من باب الدفع المعنوي والتشجيع لجنوده، فأكمل خلال شهري يناير/كانون الثاني وفبراير/شباط تهديداته الواضحة، بأن الوضع في الجنوب اللبناني سيكون مدمرا إذا انطلقت النيران من داخل الأراضي اللبنانية، وأن الجيش الإسرائيلي لا زال لديه قوة قوية جداً، ومهمة جداً. "طائراتنا في سماء لبنان تحمل قنابل أثقل لأهداف أبعد".
- اختلط التهديد مع التبجّح واستعراض القوّة، في 21 شباط فبراير، قال غالانت: "نعمل بحريّة عسكرية في كل مكان، نضرب في دمشق، نضرب في بيروت وصيدا والنبطية، ونعمل وفق احتياجاتنا من أجل درء التهديدات عن دولة إسرائيل".
كذب وادّعاء غير حقيقي:
- في 25 نيسان /أبريل 2024، أعلن غالانت أنه" تم القضاء على نصف قادة حزب الله في جنوب لبنان، والنصف الآخر يختبئون ويتركون الميدان أمام عمليات قواتنا" وهو إعلان تسويقي، لابدّ منه، يهدف إلى رفع معنويات الجيش وإعطائه بعض التشجيع من خلال تعزيز الإنجازات غير الدقيقة.
استنهاض من أجل المستقبل والوجود:
- كوزير للحرب، يتطلّب منصب غالانت وظيفة الاستنهاض الدائم لجنوده، خصوصاً بعد الاتهامات المتعددة بالفشل في تحقيق الأهداف المعلنة للحرب، في 3 يناير/كانون الثاني 2024 قال غالانت في محاولة لإعطاء دعم معنويٍ جديد: "الإحساس لدى البعض أننا في طريقنا لوقف القتال هو إحساس خاطئ/ لقد قضينا على 12 كتيبة لحركة حماس/ عملياتنا هي هجوم بالنار واجتياح وعمليات خاصة". لكن هذه الشروحات لم تسعف بديهة وزير الحرب، الذي انزلق للقول الصريح الذي يكشف النوايا العدوانية الدائمة، حين قال بصراحة "بدون انتصار واضح، لن نستطيع العيش في الشرق الأوسط" وهي واحدة من الجمل/المقولات، التي تحدّد بوصلة الحرب والتفكير لدى قادة الكيان المؤقت، والعدوانية الدائمة هنا، برزت من خلال ربط استمرارية الحرب بالعيش والوجود، فكأنه يقول إذا أردنا العيش في الشرق الأوسط ينبغي أن ننتصر، وكي ننتصر علينا ألاّ نوقف حروبنا.
- وفي 5 يناير/كانون الثاني 2024 حدّد الرجل خياره العسكري تجاه اليوم التالي لانتهاء الحرب، حين أعلن "بعد الحرب لن تعود حماس للسيطرة على غزة التي من المقرر أن تديرها هيئات فلسطينية/ لن يكون هناك تواجد مدني إسرائيلي. وهي النقاط الخلافية التي جعلت التباين بينه وبين رئيس الوزراء نتنياهو، تكبر وتتسع.
لا يمكن التغاضي عن مجمل النتائج التي تمخّضت عنها الحرب في داخل الكيان الإسرائيلي، بموازاة الخطاب الذي قلّما ذكر النواتج السلبية. من هذه النتائج:
- تفاقم النزاعات بين القيادات السياسية والأمنية، مع تعاظم الخلافات بين المعارضة والحكومة.
- ازدياد معاناة الضباط والجنود وتدمير المزيد من الآليات الثقيلة للجيش في معارك غزة.
- عشرات الآلاف من القتلى والجرحى والمرضى النفسيين.
- استدعاء 300 ألف من الاحتياط مع حاجة الجيش لاستدعاء 50 ألفًا آخرين.
- تقديرات استراتيجية خاطئة تسببت في أخطاء فادحة في ميدان المعركة، أدت إلى استمرار الأخطاء وتنفيذ حماس ضربات مؤلمة للجيش الإسرائيلي.
- انشقاقات واستقالات داخل القيادات الإسرائيلية.
- الضغط على قوات الاحتياط بلغ ذروته والاقتصاد تضرر بشكل كبير.
- بقاء نتنياهو في السلطة دون إنهاء الحرب قد يؤدي لانهيار استراتيجي.