في ظلّ الفترة الأكثر سخونة من تاريخ المنطقة الحديث، والتي تنبئ عن حرب من شأنها أن تغيّر إلى الأبد مشهد الستاتيكو القائم على الصراع العربي الإسرائيلي في الإقليم ومآلاته منذ الحرب العالمية الثانية وما أفرزه من نظام إقليمي قائم على هيمنة الولايات المتحدة في التحالفات الدولية، تبرز مسألة الردع كعامل أساسي، في محاولة للتأثير على ردة فعل محور المقاومة على الاعتداءات الإسرائيلية بدعم كامل من الولايات المتحدة.
غالبًا ما تتم مناقشة الردع في سياقه العملي على أرض الواقع وفي أيام السلم أي أوقات الحرب الناعمة، حيث تكمن القدرة على الإرغام من دون استخدام الآلة العسكرية. وقد تطورت استراتيجيات الردع الأمريكية بطريقة عكست التحولات في الأولويات السياسية والعسكرية الأمريكية لدى تعاظم الجمهورية الإسلامية الإيرانية كقوة إقليمية، تمكنت من تطوير آليات الردع التي تتحدى الجهود الأمريكية. وفي ورقة بحثية صادرة القيادة المركزية في الشرق الأوسط CENTCOM، تحت عنوان "الردع الدبلوماسي البارع: تفكيك تعقيدات ديناميكيات الردع بين الولايات المتحدة وإيران"، يعترف الضباط الدوليون في القيادة المركزية، أنه يمكن التشكيك في فعالية الردع الأمريكي بسبب استراتيجيات إيران المضادة للردع، حيث تمكنت إيران من إدارة الضغوط الخارجية ومقاومتها وإدارتها باعتبارها الاستراتيجية المعتمدة الأولى للردع. كما طورت مجموعة من الاستراتيجيات التي جعلت هؤلاء المحللين يقارنون بينها وبين الردع الذي كان قائمًا خلال الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي، علمًا أن إيران ليست دولة عظمى كما كان الاتحاد السوفياتي، ولا هي دولة نووية كما كان. وهو الأمر الذي وضع ما اسموه بـ "الردع الدبلوماسي البارع": نهج يجمع بين الضغط والمشاركة، يشمل تعزيز الشراكات الإقليمية، والحفاظ على وجود عسكري قوي، والاستفادة من القدرات السيبرانية، ضمن سياسة "العصا والجزرة"، باعتبارها أفضل فرصة لتعزيز المصالح الأمريكية دون إثارة صراع غير ضروري بالنسبة لها.
وعلى الرغم من ادعائها أمام جمهورها والرأي العام العالمي بأنها تسعى إلى الحلول الدبلوماسية وخفص التصعيد ومصطلحات براقة مثل "الأمن" و"السلام"، إلا أنها لم تبادر إلا إلى خطوات استفزازية من خلال تعزيز قواتها في المنطقة، والاستمرار في الدعم السياسي والعسكري للكيان الإسرائيلي، وعدم الاعتراف بحق ايران وحزب الله بالرد على الاعتداء عليهم، فضلًا عن القضية الأساسية وهي عدم الاعتراف بحقوق الفلسطينيين. إذ تعتمد فقط على التهديد والتلويح بقوة الردع كخيار دبلوماسي. وهنا يصبح من الضروري الردّ على هذه الاستراتيجية الكلامية بدعوة الولايات المتحدة إلى إعادة تقييم جدوى وفعالية استراتيجيتها في المنطقة. ذلك أن عرض القوة وإظهار التفوق العسكري والدبلوماسي، لم يعد ذا تأثير، خاصة أنّ الواقع على الأرض يكشف عن تحديات كبيرة تعيق تحقيق الأهداف الاستراتيجية الأمريكية.
الردع الإيراني المضاد
الواقع أن الاستراتيجيات الأمريكية المتبعة منذ عقود في مسألة الردع، والتي شملت العقوبات الاقتصادية والتدخلات العسكرية والدبلوماسية العدوانية، لم تنجح في ردع إيران عن تحقيق أهدافها. بل أدت إلى تعزيز الشعور الوطني الإيراني وتقوية محور المقاومة. حتى مع انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي وفرضها عقوبات شديدة، استمرت إيران في تطوير برنامجها النووي وتعزيز تحالفاتها الإقليمية، مما يبرز فشل الردع في تحقيق النتائج المطلوبة بسبب الردع المضاد الذي يمكن تفصيله على الشكل التالي:
تحمل العقوبات: إيران، بدورها، أثبتت أنها قادرة على تحمل الضغوط القصوى والعقوبات الاقتصادية، واستمرت في تطوير قدراتها العسكرية، بما في ذلك برنامجها الصاروخي وقدرتها على تنفيذ عمليات في جميع أنحاء المنطقة.
وحدة الساحات: تمكنت مع حلفائها من فصائل المقاومة في المنطقة من تكريس استراتيجية وحدة الساحات القادرة على شنّ هجمات متقدمة ضد القوات الأمريكية وحلفائها، تجعل من الصعب على الولايات المتحدة تحقيق أهدافها دون تكبد خسائر كبيرة.
القدرة الصاروخية المضادة: إذ تمكنت ايران من تطوير قدرة صاروخية، اكتشفت الولايات المتحدة دقتها لدى الرد على اغتيال قاسم سليماني، من خلال الاستهداف الدقيق جدًا لقاعدة عين الأسد.
حروب غير تقليدية: أثبتت فيها كافة فصائل المقاومة طيلة السنوات الماضية على قدرتها على المناورة ومنع حسم أي واقع جديد لصالح الولايات المتحدة.
استراتيجية كلامية دفاعية مضادة: الردع المضاد لا يعتمد فقط على القوة العسكرية، بل يشمل أيضًا الحروب النفسية والإعلامية التي تهدف إلى تقويض الشرعية الدولية للتدخلات الأمريكية في المنطقة. كلما حاولت الولايات المتحدة تصعيد التوترات، قابلت إيران وحزب الله ذلك بتصعيد مدروس يزيد من تكاليف أي مواجهة عسكرية ويحد من خيارات الولايات المتحدة.
عوائق الردع الأمريكي
على الرغم من التفوق العسكري الأمريكي الظاهر، تواجه الولايات المتحدة صعوبات كبيرة في تحقيق أهدافها الاستراتيجية في غرب آسيا: أولًا بسبب التعاظم العسكري لمحور المقاومة الذي يجعل من أي هجوم أمريكي مغامرة محفوفة بالمخاطر من شأنها أن تؤدي إلى نزاعات طويلة الأمد، ومكلفة، خاصة إذا كانت المواجهة مع أطراف متعددة في نفس الوقت.
ثانيًا، الرأي العام المحلي ضد الوجود الأمريكي وسياساتها في المنطقة تُضعف من شرعية حضور الولايات المتحدة وتجعل من الصعب الحفاظ على دعم محلي طويل الأمد لاستراتيجياتها. المقاومة الشعبية في العراق، والاحتلال الأمريكي في سوريا وسيطرته وسرقته للنفط السوري، وما يسمى بتحالف حماية الازدهار على اليمن، جعلوا من المستحيل تقريبًا على الولايات المتحدة تحقيق الاستقرار الدائم في المناطق التي تحتلها أو تدعمها.
ثالثًا، الاستنزاف المالي والعسكري الذي تواجهه الولايات المتحدة نتيجةً لاستمرار تدخلاتها العسكرية في المنطقة قد يؤثر بشكل كبير على قدرتها على مواصلة هذه الاستراتيجيات على المدى الطويل. ذلك أنّ الإنفاق الضخم على العمليات العسكرية والمساعدات لحلفائها، يضع ضغطًا كبيرًا على الاقتصاد الأمريكي وعجز الدين الذي بات يزداد بنسبة مليار دولار في كل عام، كل ذلك يزيد من الانتقادات الداخلية والخارجية للسياسات الأمريكية.
في ظل التحديات المتزايدة التي تواجهها الولايات المتحدة في غرب آسيا، بات على واشنطن أن تقتنع بالتعامل مع واقع جيوسياسي معقد لم تعد فيه القوة العسكرية وحدها كافية لضمان تحقيق المصالح الأمريكية في المنطقة.