الثلاثاء 03 آب , 2021 10:23

العقل البارد للمقاومة

الأسير وغصن إلى السجن

تمتعت قيادة المقاومة الإسلامية منذ انطلاقتها، وخلال كل ما جرى عليها من ظروف، أو ما تعرضت له من حوادث مفاجئة ومصيرية في آن معاُ، بما بات يصطلح عليه بالعقل البارد والدم الحار. هذا المصطلح المملوء بالحكمة والفطنة، طبقته هذه القيادة ببراعة منقطعة النظير، ومستفيدة بدرجة أولى من موروث عقائدي غني بالتجارب التاريخية، وبدرجة ثانية لا تقل أهمية عن الأولى، من التجارب التي خاضتها والتي أكدت على صحة هذا النهج. هذا العقل مكنها من مراكمة انتصارات تلو الانتصارات، لم يكن لواحد منها أن يتحقق، لولا وجود هذا النوع من التفكير الإستراتيجي الدقيق والشامل.

وجوهر هذا النوع من التفكير، هو المزواجة بين الحماس والتفكير العقلاني، بطريقة تحقق عدم طغيان أحدهما على الآخر، فيأخذ الحماس دوره الضروري الوجود، دون التأثير على صحة القرار المتخذ، وبالمقابل يضمن عدم طغيان الحسابات العقلية، التي توقع القيادة حينها في فخ التضخيم السلبي للنتائج المتوقعة. والغاية من هذا التفكير متعددة الجوانب:

1)إنتزاع زمام المبادرة من الخصم، وتوفير حریة الحركة والإرادة، وبأسلوب غیر متوقع يخالف فيها التقدیرات التي يستطیع هذا الخصم أن يتصورها.

2)إيجاد بدائل أقل كلفة بشرية ومادية ولا تضر بالأهداف الإسترتيجية، وفق قاعدة الخيار الأقل سوءاً.

3) قطع الصلة بین الفعل ورد الفعل، بما يحقق نتائج عكسية أكبر على الخصم، ومعادلات إستراتيجية بعيدة المدى.

4) حفظ عناصر القوة وتأثيراتها، عبر تأمين الحشد، والسرعة في الحركة، وخلق عنصر المفاجأة. بالتوازي مع تحديد ما يناسب القيادة من التحكم في الزمان والمكان وأساليب العمل المناسبة.

ولكيلا يقتصر المفهوم على البعد النظري، بمكننا الإستشهاد بوقائع حصلت، أظهرت براعة عقل المقاومة البارد، في قلب التحديات إلى فرص، خصوصاً على الصعيد الداخلي. وسيمكننا من خلالها معرفة أبعاد سلوك المقاومة، خلال وبعد حادثة خلدة الأليمة.

أما أبرز هذه الوقائع الداخلية:

_ مجزرة "فتح الله" عام 1987.

_ مجزرة طريق المطار في أيلول من العام 1993.

_ أحداث عبرا وما سبقها من ظهور لحركة "احمد الأسير" الإرهابية.

فتح الله: ولادة العقل البارد

تعرضت ثكنة فتح الله الواقعة في حي البسطا في بيروت الغربية، والتي كانت المقر الرئيسي للمقاومة، في 25 شباط 1987، لهجوم من قبل القوات السورية الموجودة في لبنان، أدى لسقوط 22 شهيد مظلوم.

حينها أدانت المقاومة هذا الهجوم معتبرة إياه "مجزرة غير مبررة"، كان الرد عليها حينها سيدخلها في حرب لن يستفيد فيها سوى جيش الإحتلال الإسرائيلي. لهذا لم تدعو إلى شن هجمات انتقامية، بل اتخذت إجراءً وقائياً، برزت أهميته طوال العقود الماضية، عبر انتقال مقرها المركزي إلى مواقع سرية في الضاحية الجنوبية.

أما على صعيد العلاقة مع الدولة السورية، فقد تمكنت المقاومة لاحقاً بفضل هذا القرار الحكيم، من نسج علاقة تفاهم وتنسيق مع القيادة السورية، ساهمت بشكل كبير في تحصين جبهتها الداخلية من جهة، وتركيز جهودها على مواجهة جيش الإحتلال الإسرائيلي من جهة أخرى. كما تطورت متانة هذه العلاقة خلال العديد من الإستحقاقات، من حرب تموز في العام 1993، إلى حرب نيسان عام 1996، وصولاً إلى إنجاز التحرير الغير المسبوق في تاريخ الصراع مع كيلن الإحتلال في أيار 2000.

لترتقي بعدها العلاقة من علاقة دعم، إلى علاقة تحالف استراتيجي (باتت سوريا العمق الإستراتيجي للمقاومة)، ثبت أهمية ومدى عمق هذا التحالف ، خلال حرب تموز عام 2006، وخلال الحرب التي شنت على سوريا عام 2011.

فكيف الحال سيكون إذا ما ردت المقاومة حينها، على وقوع هذه المجزرة بعمليات انتقامية؟!

مجزرة طريق المطار: بناء ثلاثية معادلة حماية لبنان

أما في 13 أيلول من العام 1993، فقد وقعت مجزرة تحت جسر المطار، بعدما قام عناصر من الجيش اللبناني، بإطلاق النار على متظاهرين عزل، كانوا يحتجون على الخيارالإستسلامي العربي المتمثل باتفاق اوسلو (بين كيان الإحتلال ومنظمة التحرير الفلسطينية). وقد ادت هذه المجزرة حينها، الى سقوط 10 شهداء وأكثر من 40 جريحاً.

كان الخيار الإنفعالي وقتها يقتضي، بأن تدعو المقاومة مقاتليها ومناصريها، إلى المواجهة المسلحة مع الجيش. لكن القيادة استطاعت تبصر أبعاد هكذا خيار، وما يمكن أن يسببه من حرب داخلية تقضي على جهود المقاومة، وتؤدي إلى نزاع لا فوز فيه بل خسائر جسيمة.

وسرعان ما تبين صحة هذا الخيار، حينما فشل المشروع التآمري وقتها، وأدى لولادة علاقة من التنسيق عالي المستوى، بين المقاومة والجيش في الجنوب والبقاع الغربي. مكنهما من صنع معادلة استراتيجية صمدت خلال كل السنوات اللاحقة، سميت لاحقاً بالمعادلة الذهبية لحماية لبنان : جيش، شعب ومقاومة.

حركة "احمد الأسير" الإرهابية

بعد نشوب الحرب على سوريا بأبعادها الداخلية والخارجية، توصلت المقاومة إلى قرار استراتيجي يقتضي منها، التدخل لمساندة الجيش والشعب السوريين، وضمان عمقها الداعم. حينها ظهر في لبنان جماعات تدعم الفصائل الإرهابية في سوريا، وترفض تدخل المقاومة هناك، ومن بين هذه الحركات الإعتراضية، برزت جماعة "أحمد الأسير"، التي هددت عاصمة المقاومة وبوابة عبورها نحو الجنوب. فلم يكتف الأسير ومناصريه بتنفيذ الاعتصامات والحركات الاعتراضية، بل تعداه الى تنفيذ أعمال استفزازية بنحو مذهبي، ضد بيئة المقاومة. فقاموا بقطع الطرقات، والاعتداء على المواطنين العزل، والتضييق على سكان عبرا من كل المذاهب، لتحويل المنطقة إلى غيتو ومربع أمني.

حينها توجه المناصرين إلى قيادة المقاومة، بدعوتها لاتخاذ إجراءات تمنع هذه الجماعة من التمادي في الإعتداءات. لكن المقاومة رأت في تلبية هذه الدعوة، نتائج ستؤدي لمخاطر كبيرة على صعيد المس بهيبة الدولة من جهة، أو على صعيد تمزق النسيج الداخلي لمدينة صيدا، ولعموم منطقة الجنوب والمناطق اللبنانية. لذا اتخذت المقاومة القرار بالصبر والتحمل أمام كل هذه الإعتداءات، ودعت بيئتها الحاضنة إلى عدم الإنجرار لأي عمل استفزازي، بالإضافة إلى منع حصول أي حدث أو نشاط، وكل ما يمكن لهذه الجماعة الإرهابية استغلاله كذريعة للقيام باعتداءاتها.

عندها قامت جماعة الأسير بخطئها القاتل والمميت، حينما نفذ مقاتلوها هجوماً مسلحاً ضد مواقع للجيش في منطقة عبرا. ما دفع بالجيش الى اتخاذ قراره الحازم والحاسم، بمهاجمة هذه الجماعة المسلحة، واستطاع خلال 24 ساعة فقط، من إنهاء وجودها بأقل الخسائر البشرية الممكنة.

وعليه وبناءاً على كل ما تقدم، نستطيع استشراف ما ستئول اليه نتائج إعتداء خلدة الغادر، بحيث سيكون لقرار قيادة المقاومة تسليم المعالجة الميدانية للجيش، آثار مهمة على صعيد حفظ السلم الأهلي من جهة، والسماح للدولة وأجهزتها بالقيام بواجبهم، لناحية اتخاذ كافة تدابير العقاب والجزاء، بكل من تسول له نفسه العبث بالإستقرار الداخلي من جهة أخرى.


الكاتب: غرفة التحرير




روزنامة المحور