بعد أن قام الجيش العربي السوري وحلفاؤه في العام 2018 بتحرير تدمر وغربي دير الزور والبوكمال بمحاذاة الحدود العراقية في شرق سوريا، وبعد التراجع عن الإنسحاب الأميركي الكامل من سوريا في عهد دونالد ترامب، حصر الأميركيون تواجدهم في شرق الفرات قرب منابع النفط وفي قاعدة التنف في البادية السورية. لم يكن القرار الأميركي ساذجاً، بل هو قرار اتخذ من أجل منع الدولة السورية من الإستفادة من مواردها الطبيعية من النفط والغاز واليورانيوم والقمح الذين تزخر بهما منطقة شرق الفرات.
ومن أجل تثبيت أقدامه في المنطقة وتجنب المواجهات المباشرة، حسم الأميركي خياره يومها بدعم قسد، قوات سوريا الديمقراطية، في شرق الفرات ودعم إرهابيي داعش في منطقة التنف، والذي أعيد إطلاقه تحت مسمى جيش مغاوير الثورة في العام 2022. ومنذ مجيئ جو بايدن للحكم ابتدأت علاقة وطيدة وعلى مستوى رفيع بين قيادات قسد وقيادات جيش الاحتلال الأميركي. خاصة بعد ان استقرت إدارة جو بايدن في مراكز الحكم وبدأت باستلام مفاصل القرارات في الدولة الأميركية، وهنا علينا ألا ننسى أن إدارة بايدن هي امتداد لإدارة سلفه الديمقراطي باراك اوباما ولوزيرة خارجيته هيلاري كلينتون، التي فضح دونالد ترامب علاقتها المباشرة في إنشاء تنظيم القاعدة، المنبع الرسمي لداعش الإرهابي.
وبناء عليه، يجب عدم الشك خلال قراءة المشهد في شمال شرق سوريا، وانه علينا أن نضع نصب أعيننا العلاقة المشبوهة التي نشأت بين داعش والولايات المتحدة، ودورها في الحرب على سوريا. وبحسب مصدر مطلع للخنادق، كان ضباط الموساد يعبرون الطريق من درعا جنوباً عبر البادية السورية إلى شرق الفرات دون أن يوقفهم أحد ما قبل العام 2018، وبعد أن تعمقت العلاقة المشبوهة ما بين التحالف الدولي وقسد تحت مسمى "محاربة الإرهاب" بات الصهاينة يرتعون في حضن أصدقائهم في شرق الفرات وكردستان العراق، ولهم حضورهم في القواعد الأميركية في سورية كما لهم حضورهم في قاعدة عين الأسد في العراق.
هذه العلاقة المريبة، بدأت ملامح توطيدها في العام 2021، وتعتمد عليها قسد أوالإدارة الذاتية من أجل إنشاء دولة كردية، حيث توجد أهم منابع النفط والغاز في شرق الجزيرة السورية. منابع تعمل الإدارات الأميركية المتعاقبة منذ العام 2011 على منع وصول الدولة السورية إليها، وبالتالي استخدامها في التنمية المحلية واستخدام مواردها في إعادة إعمار سوريا، وتمنعها من أجل خنق الشعب السوري ودفعه للإنقلاب على دولته. وتعتمد قسد وغيرها على هذا الدعم الأميركي اللامتناهي في تثبيت وجودها واستمراريته، وقد بات من المسلمات أنه ما أن تغادر القوات الأميركية شمال شرق وشرق سوريا، فإن كل من قسد وداعش ستصبحان جزءً من التاريخ المرير الذي عاشته سوريا والمنطقة خلال الإثنتي عشرة سنة الماضية.
في الحقيقة إن استعراض الأحداث منذ العام 2019 ينبئنا باستحالة عودة قسد إلى حضن الدولة السورية، بداية معظم مكونات قسد، وحسب شهود من المنطقة، ليست سورية، ومنها أغلبية لا تتحدث اللغة العربية، قسم جاء إلى سوريا في التسعينات هرباً من صدام حسين، وقسم هرب من بطش الحكومات التركية المتعاقبة، ومعظم تشكيلات هؤلاء من حزب العمال الكردستاني المحظور في تركيا، ومعظمهم في شرق الفرات من مقاتلين جبال قنديل الواقعة ما بين تركيا وإيران. ولذلك فإن هذه المجموعات لن تنسجم مع العرب السوريين ولاحتى مع الأكراد السوريين، بل على العكس هي تتعامل معهم بتعال، وتخطف الشباب والشابات والأطفال من أجل الخدمة الإلزامية في صفوفها. وهذا الكلام يؤكده شهود عيان سوريون نازحون في لبنان، والذين هربوا بسبب ممارسات قسد في منبج أو عين العرب أو الحسكة أو دير الزور وغيرهم من مدن الشمال والشمال الشرقي السوري حيث ترتع قوات التنظيم.
في العام 2019، كان قرار ترامب بالبقاء في شمال شرق سوريا من أجل حراسة البترول، وبدأ بإدخال الشركات الأميركية إلى هناك، ومن ثم كان القرار بحراسة القوات الأميركية التي تحرس الشركات الأميركية بواسطة قوات قسد العميلة في المنطقة نفسها. وفي الوقت نفسه، ابتدأ نفخ رأس الأكراد بشكل كبير، عبر إعطائهم صلاحيات كبرى في إدارة أمورهم بشكل ذاتي وأصبح لهذه الإدارة دخل مستقل من عائدات النفط السوري، وبحسب نائب الرئاسة المشتركة للمجلس التنفيذي للإدارة الذاتية حسن كوجر فإن قسد تستثمر أقل من نصف إنتاج الآبار والحقول وتستخرج يومياً 150 ألف برميل، وذلك بحسب موقع https://globaljusticesyrianews.com/.
ويعد هذا بحد ذاته مطمعاً كبيراً يجعل قسد تستميت قبل وضع هذا الحجم من الأرباح اليومية لصالح الدولة السورية مرة ثانية. وقد لعبت الحكومة الأميركية في عهد جو بايدن دوراً سيئاً جداً في تعميق الخلاف ما بين قسد والدولة السورية ومنعتها من القيام بأية محادثات جدية ما بين الطرفين، وعززت لديها الرغبة بالإنفصال، وفي كل مرة تبدأ المباحثات ما بين قسد والدولة السورية يكون وراءها مطلباً قسدياً تريد الأخيرة من الولايات المتحدة تنفيذه. ومن يتابع الأحداث يرى صور مظلوم عبدي، القائد العسكري للتنظيم، وهو يجلس كزعيم إلى جانب قادة القوات الأميركية المحتلة والمتعاقبة في التنف السورية، أو قادة الأركان الأميركيين أنفسهم، يمكنه أن يفهم كيف يعزز الشعور الإنفصالي لدى قسد قيادة وأفراد عبر إعطاءهم أهمية أكبر من حجمهم بكثير.
عندما خرجت القوات الأميركية من أفغانستان في العام 2021، سارعت قيادات قسد من اجل فتح باب للحوار مع دمشق، ولكن هذه البوابة كانت مؤقته يومها وتلاها مباشرة تأكيدات أميركية بوقوفها إلى جانبها في خطتها في بناء كيان ذاتي. حتى ان الأميركيين منذ أيار/ مايو الماضي قاموا بتزويدها بصواريخ تاو وصواريخ مضادة للطائرات.
قامت قسد بخطوات تصعيدية وحاصرت مطار القامشلي بدعم أميركي في حزيران/ يوليو رداً على منع دخول مساعدات للأكراد في حي الشيخ مقصود في حلب متحدية الجيش السوري. هذا التحد يمكنه أن ينبأ بحجم الوقاحة التي باتوا يتعاطون بها، خاصة وأن الخطر الأكبر القادم من أكراد قسد وأكراد قنديل، كما يسميهم أهالي المنطقة، هو أنهم يمثلون دولة اسرائيلية ثانية في منطقة شرق الجزيرة السورية، ويتعاملون مع الموساد بشكل بات مفضوحاً. وأصولهم تفضح أنهم طارئون في سوريا.
وبناء على ما سبق، لا يُستغرب تصريح الجنرال بول تي كالفرت قائد التحالف الدولي في الشهر الماضي وقد شوهد وهو بصحبة عبدي، بأنه يتشرف أن يكون بين الحشد الذي هزم داعش وهو كذب يراد به باطل، ليرد عبدي في نفس اللقاء متهماً "النظام" السوري تجاه "منطقتهم" ب "العدائية". وقسد بعد الحرب التي ابتدأت رحاها بداية هذا الشهر مع العشائر لم يبق أمامها سوى القتال حتى الرمق الأخير، لأنها تعلم ان الميزات التي منحها إياها الأميركيون خلال الاثنتي عشرة سنة الماضية لن يستطيعوا التمسك بها إلا بالدم ومن خلال الاحتلال الأميركي، والدم لن يستجلب عليهم إلا المزيد من الدم. وما قدمته قسد من حماية ودعم للجيش الأميركي في احتلال شرق الفرات والتآمر معهم على منع السوريين من الإستفادة من خيراتهم لا يمكن أن يضعهم إلا في مصاف الأعداء أو الخونة.
-كاتبة صحفية، عضو في الرابطة الدولية للخبراء والمحللين السياسيين / ماجستر في العلاقات الدولية من جامعة LAU