تواجه مؤسسات القضاء الدولي والعدالة الدولية بشكل عام تحديات كبيرة تعيق قيامها بدورها المفروض بموجب أنظمتها التأسيسية، فالصعوبات التي تواجهها محكمة العدل الدولية (محكمة مختصة بالنظر في النزاعات بين الدول) هي ذاتها التي تعاني منها المحكمة الجنائية الدولية (محكمة متخصصة بالنظر في الجرائم الدولية التي يرتكبها الافراد)، على الرغم من الاختلاف بين المؤسستين في الاختصاص وتقاربها في الأهداف (أي تحقيق العدالة الدولية من أجل الحفاظ على الامن والسلام الدوليين).
يبدو الهم المشترك بين المؤسستين هو ذاته، وهو مواجهة ضغوط وتهديدات القوى الغربية المهيمنة وعلى رأسها الولايات المتحدة.
ما بعد طوفان الاقصى: تزايد الشكوك حول النزاهة
لم يرتقِ أداء المدّعي العام (كريم خان) إلى المستوى المتناسب مع هول الإبادة التي تنفّذها "إسرائيل" بحقّ الفلسطينيين، حتّى بعد صدور قرار محكمة العدل الدولية في 26 كانون الثاني 2024 الذي أقرّ بوجود خطر الإبادة. فبعد خمسة أيّام على عملية 7 أكتوبر، أكّد كريم خان أنّ "لديه الصلاحية للتحقيق في الجرائم المرتكبة من قبل فلسطينيين على الأراضي الإسرائيلية"، كون فلسطين انضمّت إلى نظام روما. وقد شدّد خان أيضًا في تصريحه أنّه شكّل فريقًا للتحقيق في قضية فلسطين بعد تولّيه منصبه، وأنّ مكتبه لا تتوّفر لديه الموارد الكافية للتحقيق في جميع القضايا إذ يعود للدول أن تقدّم له الأدوات اللازمة لذلك. ولكن الانحياز الفاضح لخان تجلّى في زيارته إلى "إسرائيل" والضفة الغربية في أوائل كانون الأوّل 2023، بناء على دعوة عائلات الضحايا الإسرائيليين، علمًا أنّ إسرائيل ليست طرفًا في نظام روما. فعَكَس بيانه عقب هذه الزيارة أداءً غير مهنيّ وغير محايد تجاه الجانب الفلسطيني، ومحابيًا للجانب الإسرائيلي. وتجلّى ذلك في وصفه قوى المقاومة الفلسطينية، ومن ضمنها حماس، بأنّها "منظمات إرهابية"، علمًا أنّ مصطلح الإرهاب لا وجود له في نظام روما الأساسي أو في القانون الدولي الإنساني وأنّ الشعوب المحتلّة، كالشعب الفلسطيني، لها الحقّ في مقاومة الاحتلال، بما فيها المقاومة المسلّحة، لمواجهة انتهاك حقّها في تقرير مصيرها.
اتسّعت دائرة الشكّ التي تحيط بخان بعد تعيينه مؤخّرًا المحامي البريطاني أندرو كيلي للإشراف على التحقيق حول فلسطين بدءًا من آذار 2024، وهو المدعي العام العسكري البريطاني السابق الذي أدّى دورًا رئيسيًّا في قرار المدّعية العامّة السابقة للمحكمة بإغلاق التحقيق في ملف ارتكابات جنود بريطانيين خلال احتلال العراق. وفي مقابل اعلان المدعي العام لدى المحكمة الجنائية الدولية عن مذكرا اعتقال بحق قادة إسرائيليين وقادة من حركة المقاومة الفلسطينية، جاء في رسالة أمريكية موجهة إلى خان والتي نشرها السيناتور عن ولاية فلوريدا، ريك سكوت، عبر صفحته الموثقة على "إكس"، تويتر سابقا: "نكتب لك بشأن التقارير الخاصة بأن محكمة الجنايات الدولية قد تنظر في إصدار مذكرات اعتقال دولية بحق رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ومسؤولين إسرائيليين آخرين. نعتبر مثل هذه الخطوات غير شرعية ونرى أنها تفتقر للأسس القانونية، وإذا تم إقرارها، سينتج عنها عقوبات قاسية بحقك وبحق مؤسستك". وأشار المشرعون الموقعون على هذه الرسالة إلى أن إصدار مذكرات اعتقال بحق قادة إسرائيليين "لن يكون غير مبرر فحسب بل سيكشف نفاق المؤسسة (المحكمة) ومعاييرها المزدوجة". وحذر السيناتورات من أن إصدار مذكرة الاعتقال المحتملة ضد القادة الإسرائيليين لن يُفسر كـ "تهديد لسيادة إسرائيل فحسب بل لسيادة الولايات المتحدة الأمريكية أيضا". وختم المشرعون الأمريكيون بالقول: "الولايات المتحدة لن تتسامح مع الهجمات المسيسة ضد حلفائها من جانب المحكمة الجنائية الدولية"، وأضافوا: "استهدفوا إسرائيل وسنستهدفكم"، وواصلوا تهديداتهم في الرسالة بالقول: "إذا مضيتم قُدما بالإجراءات المذكورة في التقارير سنتحرك لإيقاف الدعم الأمريكي للمحكمة بشكل كامل، ولفرض عقوبات على موظفيكم والمتعاونين معكم، وسنحرمكم وعائلاتكم من دخول الولايات المتحدة.
ليس من الغريب أن يهاجم الكيان الإسرائيلي وتحديدا ناتنياهو المحكمة، لكن الغريب بالنسبة للمجتمع الدولي أن تهاجم الولايات المتحدة وخاصة نوابها بإصدار المواقف غير المسؤولة التي هدفها اسقاط المحكمة ودورها في تحقيق العدالة المنشودة. فخلافا لمواقفهم المؤيدة للمحكمة فيما يتعلق ببطاقة الجلب الصادرة في حق الرئيس الروسي وعدد من المسؤولين الروس، نراهم اليوم يشككون في مصداقية الخطوة التي اتخذها الادعاء بحق ناتنياهو وحكومته وقادته العسكريين. بالتأكيد أنّ الحلم بالحصول على عدالة حقيقية تؤمن محاسبة المجرمين والقتلة كبير، لكن تنفيذه رهين تكاتف الجهود الدولية-خاصة من هؤلاء الذين يؤمنون حقيقة بدور القضاء الدولي ومنهجيته، والذين يتمسكون بضرورة عدم تسييس قرارات المحاكم الدولية والاهم من ذلك، تحريرها من الهيمنة الأمريكية.
ربما أصبح لزاما على المجتمع الدولي الذي يدعي الحرص على حقوق الانسان والسلم والامن الدوليين، أن يقف وقفة حقيقية مع الحكومات التي تؤيد العدالة الدولية، التي أصبحت في الميزان اليوم بما تبقى لها من وجود عملي ومصداقية مربكة، ومع المنظمات والوكالات الإنسانية الدولية والمنظمات غير الحكومية والناشطين والحقوقيين حول العالم، إلى مساندة المحكمة الجنائية الدولية وعملها وموظفيها ومسؤوليها، في تحقيق المهام والواجبات المنوطة بهم، وإدانة كافة التهديدات بالانتقام، من العاملين في المحكمة، بهدف التأثير على حيادية واستقلالية المحكمة الجنائية الدولية. ربما المجتمع الدولي مطلوب منه مضاعفة الجهود من اجل إنهاء سياسة الإفلات من العاقب، من اجل محاسبة جنائية دولية شفافة ونزيهة، عن كافة الانتهاكات المرتكبة ضد المدنيين وجبر ضرر الضحايا وإنصافهم.