الجمعة 30 آب , 2024 03:45

الاستراتيجية الأميركية المرنة في الحرب.. السير على حافة الهاوية

التزمت الإدارة الأمريكية منذ بداية الحرب الجارية بثلاثة ضوابط استراتيجية: أولاً، تحقيق انتصار للكيان المؤقت، ثانياً، تفادي الانجرار للحرب الشاملة، ثالثاً، نجاح مرشح الحزب الديموقراطي في الانتخابات الرئاسية. يظهر ذلك جلياً في النص الذي نشره جو بايدن في صحيفة واشنطن بوست بتاريخ 20 تشرين الثاني 2023، أي بعد حوالي شهر ونصف على بدء الحرب، وقد شكل هذا النص المرتكزات الرئيسية للرؤية الأمريكية في هذه الحرب.

قال بايدن بصريح العبارة: "إن من واجب إسرائيل ومن حقها أيضاً أن تدافع عن نفسها"، وهي لازمة تكررت على لسان بايدن وأوستن وبلينكن وسوليفان في الأشهر الأولى للحرب، وهي تدل بشكل واضح على أن الحرب هي في الحقيقة مع الولايات المتحدة الأمريكية ممثلةً بوكيلها الإسرائيلي.

وفي عبارة أخرى، قال بايدن بوضوح أن أمريكا هي التي تدير المواجهة: "من واجبنا أن نتولى القيادة"، دون يعني ذلك غياب النقاش العملي والسياسي بين الطرفين.

وبالاستناد إلى النص، سنقوم بتشريح عملية التضليل الاستراتيجي التي تقوم بها الولايات المتحدة، لتحقيق هذه الضوابط أو الغايات الثلاث، فيما يتسنى لنا إعادة تشكيل المشهد لتتضح أهمية المرونة الاستراتيجية كمرتكز رئيسي في السياسة الخارجية الأمريكية، بما لها من أثر عميق على قدرة قوى التحرر على خوض المواجهة معها، إذ انها، عبر هذه المرونة، تحتفظ بالقدرة على التدخل والضغط والمناورة الدبلوماسية، دون أن تتعرض للمخاطر.

انتصار الكيان المؤقت

يقوم هذا النصر على أساس التخلص من حماس وتدمير بيئتها الحاضنة مادياً ومعنوياً وإعادة تشكيلها لاحقاً وفق مشروع التطبيع، قال جو بايدن في مقالته: "لا ينبغي أن يكون هدفنا ببساطة وقف الحرب اليوم، بل يجب أن يكون إنهاء الحرب إلى الأبد، وكسر دائرة العنف المتواصل، وبناء وضع أقوى في غزة وفي جميع أنحاء الشرق الأوسط حتى لا يستمر التاريخ في تكرار نفسه". انتصار الكيان المؤقت في هذه الحرب يعني منع محور المقاومة من قضم الإطار الأمني الوجودي للكيان، وبالتالي منع قيام كتلة صلبة ومتوثبة وجريئة في مواجهة الكتلة الغربية في منطقة غرب آسيا، وهذا هدف أمريكي مركزي يتعلق بالقيمة التاريخية لهذه المنطقة، والتي تتعلق بالنفط والممرات والموارد، وإن كانت قد تراجعت إلى درجة التوازي في الأهمية بالمقارنة مع شرق أوروبا وشرق آسيا، مع الالتفات إلى أن الولايات المتحدة تتدخل هنا عسكرياً بشكل مباشر، ولا تفعل ذلك هناك، لأسباب تتعلق بالحاجة العملياتية للكيان في هذه المواجهة المعقدة.

أما بخصوص الحل السياسي، فيقول جو بايدن في مقالته: "إن الشعب الفلسطيني يستحق دولته الخاصة ومستقبلا من دون تأثير حماس"، وهذا ما يشير إلى أن الجدال بين الإدارة الأمريكية الديموقراطية والحكومة الإسرائيلية حول الحل السياسي في قطاع غزة بعد الحرب، هو جدال يتعلق بالمواقف الإعلامية والمشروعية إلى الآن، لكن لم يبلغ أوان نضجه بعد، ذلك أن أي مشروع سياسي في غزة، يفترض أن ينشأ ويتشكل بعد القضاء على المقاومة في قطاع غزة وليس قبل ذلك.

تفادي الانجرار للحرب الشاملة

تفكيك نافذة المناورة الاستراتيجية لمحور المقاومة هو هدف أمريكي، يصب في الضابطة الثانية، وهي عدم التورط في حرب اقليمية، فتبقى غزة الساحة التي يريد الأمريكي أن تنحصر الحرب فيها، وعندما تتفكك هذه النافذة ستنحسر قدرة محور المقاومة على المبادرة مستقبلاً، وبالتالي تتقلص احتمالات اضطرار الولايات المتحدة للتدخل العسكري الشامل في المنطقة. يلمح بايدن إلى هذه المقاربة بشكل واضح في المقال: "من واجبنا أن نتولى القيادة، لأننا إذا ابتعدنا عن تحديات اليوم، فإن خطر الصراع قد ينتشر، وسوف ترتفع تكاليف التصدي له".

نجاح المرشح الديموقراطي

أثرت الانتخابات القريبة من زمن الحرب على اللغة الدبلوماسية الأمريكية، وعلى بعض الإجراءات الميدانية في قطاع غزة لناحية إدخال المساعدات وبعض الترتيبات الجزئية في بعض الفترات الضاغطة، لكنها لم تؤثر على الموقف الدبلوماسي والإعلامي الأمريكي، كما أنها لم تؤثر بشكل فعلي على تدفق السلاح إلى جيش الاحتلال. والآن يخوض الأميركي في عملية تفاوض تتزامن مع نشر القطع البحرية، للحفاظ على الحصانة الأمنية للكيان المؤقت، ومنعاً لحصول انتكاسة دفاعية تضطر الولايات المتحدة لإجراءات عملياتية في إطار ترميم تلك الانتكاسة، وبالتالي احتمال الانجرار إلى مواجهة محدودة مرشحة للتوسع، تحمل درجات مخاطر ليس هناك ضرورة لها بنظر الأمريكيين خصوصاً في الوقت الحالي مع اقتراب الانتخابات.

مسارات التضليل

عملية التضليل الاستراتيجي التي وكبناها خلال الحرب منذ بدايتها، تتمثل أولاً في تظهير موقف الولايات المتحدة بأشكال مختلفة وملتبسة، على أنها مضطرة لإنهاء الحرب خوفاً من الانتقال إلى حرب شاملة، لكن المعالجة الفعلية بنظر بايدن لاحتمالات التصعيد هي التدخل الأمريكي المباشر والهادف للردع، يقول: "سنواصل العمل لمنع هذا الصراع من الانتشار والتصعيد. لقد أمرت مجموعتين من حاملات الطائرات الأمريكية بالذهاب إلى المنطقة لتعزيز الردع"، ويتزامن هذا الإجراء الصلب، وفق السياسة الأمريكية التقليدية التي تقوم على أساس العصا والجزرة، بإجراءات دبلوماسية تفاوضية، تدفع الطرف الآخر لتفضيل التراجع على التوثب.

الاتجاه الثاني للتضليل يتمثل في إظهار أن الولايات المتحدة تخسر نفوذها وتأثيرها في المنطقة نتيجة سماحها للاحتلال بارتكاب مجازر هائلة ومتواصل تحت عين الإعلام الآني الذي يبث صوراً مهولة من الإجرام الإسرائيلي، غير أنها في الحقيقة، وبعد عشرة أشهر من التجربة، لم تلاحظ أن تحرك الشعوب والدول يؤثر فعلاً على مسار مشروعها في غزة والضفة، والذي يفترض أن ينتهي بالتطبيع و"السلام" وبالتالي تسترجع الصورة الأخلاقية التي خسرتها، بالإضافة إلى قيامها بتحييد نفسها عن تلك الجرائم بطرق مختلفة، مع استمرار تسليح الاحتلال بالقنابل اللازمة لاستكمال تدمير غزة وقتل أهلها.

الاتجاه الثالث في التضليل يتمثل في خوف الإدارة الديموقراطية من تأثير الحرب على نتائج الانتخابات، مع خروج جو بايدن من السباق الانتخابي، تراجعت الحاجة للقيام بإجراءات "إنسانية" من قبيل ادخال المساعدات إلى قطاع غزة، ولذلك نرى الجوع ينتشر والأوبئة والأمراض، فيما أن المرشحة الديموقراطية كمالا هاريس تجد نفسها قادرة على استخدام مقولات خطابية أخلاقية تجاه غزة، دون أن تتحمل شخصياً المسؤولية عما جرى هناك، كونها لم تأخذ موقعاً مباشراً خلال الحرب، والآن في حال وصلت إلى السلطة فسيكون لديها الوقت الكافي لتعطي نتنياهو الهامش الكافي لاستكمال المشروع في غزة والضفة، وبعد ذلك يأتي التطبيع المفترض ليعالج الآثار والتبعات.

تظهر هذه التجربة أن أخطر عامل في السياسة الأمريكية الخارجية هو المرونة، فهي تستطيع أن تسير على حافة الهاوية، وتضبط خيوط اللعبة، بحيث تستطيع الحفاظ على التوازن بين الضوابط الثلاث، وفي حال حصول انزياح في أحد المسارات بشكل يؤثر على الضوابط، فإنها تمتلك القدرة على التحرك بشكل يعيد التوازن، ويبقى المشروع جارياً حتى تحقيق الأهداف، فهي تحافظ على استمرار الحرب حتى الوصول إلى تحقيق الانتصار الإسرائيلي، وفي حال تعرضه لأي مخاطر تتدخل لحمايته، وفي حال اقترب الصراع من الانفجار فإنها تتدخل عبر القوة الرادعة والدبلوماسية الخادعة حتى تكبح التصعيد، وبحسب الحاجة تقوم بإجراءات اعلامية أو ميدانية لتخفيف الضغوط على المرشح الديموقراطي.


الكاتب: غرفة التحرير




روزنامة المحور