طوال عقود الصراع العربي الإسرائيلي، تحمل التصريحات الأمريكية صيقًا وشتاءً تحت سقف واحد. على المستوى اللفظي، تُظهر الولايات المتحدة رغبة في التهدئة أو في وقف تصعيد ما، أو مثلًا تدعم حلّ الدولتين. بينما في الواقع تدعم الإدارة الأمريكية الكيان الاسرائيلي بشتى الوسائل في رغباته أو أهدافه في أي تصعيد عسكريًا كان أو سياسيًا.
هذا التناقض بين الأقوال والأفعال هو استراتيجية اعتمدتها الولايات المتحدة في جميع صراعاتها على النفوذ. إذ تبعث برسائل السلام وحقوق الإنسان من جهة، ومن جهة أخرى فإن غاية الهيمنة وتحقيق المصالح تبرر وسيلة العمليات النفسية، بهدف تجنب الانتقادات وتضليل الطرف الآخر من خلال "قوة الكلمة".
على مدى عقود، عبّر المسؤولون الأمريكيون عن دعمهم لحلّ الدولتين باستمرار. ومع ذلك، تمّ توجيه الانتقادات لها بسبب عدم اتخاذها خطوات ملموسة للضغط على إسرائيل لوقف بناء المستوطنات أو تغيير سياستها تجاه الفلسطينيين. حتى وصلنا إلى حكومة نتنياهو المتطرفة، التي ترفض حل الدولتين، ولا تقبل حتى بالسلطة الفلسطينية الخاضعة لها، كما أنّ العمل على تنفيذ الخطط الاستيطانية للسيطرة الكاملة على الضفة جارٍ على قدم وساق. فهل من عادة الولايات المتحدة في سلوكها مع الدول أن تسمح لحكومات أن تصل إلى السلطة قبل الموافقة على مشروعها السياسي؟
ماذا عن مبدأ "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها" خلال حروب الكيان على غزة، والاعتداءات على الضفة الغربية وجنوب لبنان (ومؤخرًا في سوريا)، بينما يتم الدعوة في نفس الوقت إلى "ضبط النفس"، والضغط "عمليًا" فقط على الطرف المعادي لإسرائيل لوقف التصعيد؟
إلى ذلك، تتفنن الولايات المتحدة بتصريحات "الدور الإنساني" في النزاعات، لكن ماذا عن الضغط على الجهة التي تقوم بالمآسي الإنسانية عسكريًا وسياسيًا وهي إسرائيل؟ لا شيء.
وأخيرًا، وهو موضوع هذه الورق، الرسائل الأمريكية التي توحي بـ "حاجة الولايات المتحدة إلى وقف الحرب في قطاع غزة، خوفًا من الانفجار الكبير، وتفاديًا لتأثيرها على الانتخابات الأمريكية". للوهلة الأولى، تبدو هذه القضايا منطقية، خاصة أن الولايات المتحدة ليست مستعدة لحرب استنزاف جديدة في فترة حرجة من أزمتها الاقتصادية، وأنه بالفعل ثمة ضغوط انتخابية كبيرة على الإدارة الديموقراطيةـ بسبب الحرب على غزة. ما دفع الكثير من المحللين لتكرار هذا الإيحاء وتوظيفه في تحليل السلوك الأمريكي. فما هي محددات التضليل في هذه الرسالة؟
يبدو أنّ أي فكرة أو تحليل ناتج عن رسائل متخفية بالمنطق والواقعية، هي خطيرة مثل هذه الرسالة، وعندما تأتي في حالات الصراع والفوضى السياسية وعدم اليقين، يجب إعادة تقييمها وقراءتها لدى كل سلوك أو تصرف متناقض. خاصة إذا كانت متكررة وقد تمّ الإغراق الإعلامي بها.
أولًا: تفكيك الرسالة
- الخوف من الانفجار الكبير: يشير إلى احتمال انزلاق الحرب على غزة إلى مستوى أكبر قد يؤدي إلى تداعيات إقليمية أو حتى دولية. وأن استمرار الحرب يمكن أن يشعل نزاعات أوسع في المنطقة، لكن الواقع أنها مستمرة بالدعم الكامل لإسرائيل في هذه الحرب دون أن ينقص منه شيئًا، بل إنها تتصدى شخصيًا لكل من يتحدث بأنه جاهز للتصعيد.
- تأثير الحرب على الانتخابات الأمريكية: تشي هذه الفكرة إلى أن الادارة الديموقراطية تريد تجنب التأثير السلبي على حملاتها الانتخابية أمام الجمهوري الصاعد بقوة دونالد ترامب، بسبب قضايا حقوق الانسان والقيم الأمريكية "المدعاة"، بالإضافة إلى الناخبين الذين لا يرغبون توريط بلادهم في صراعات دولية جديدة. لكن إدارة بايدن في الواقع تعمل على دعم أهداف استراتيجية تتماشى مع مصالحها في المنطقة.
فما هي هذه المصالح وما حقيقة هذه الرسالة؟
ثانيًا: السياقات الاستراتيجية والتكتيكية لفهم حقيقة الرسالة
فهم هذه الاستراتيجيات يمكن أن يكشف الغرض الحقيقي من الرسالة، وما إذا كانت جزءاً من تضليل، أو تحضيراً لخطوة تكتيكية أو استراتيجية أكبر:
- استراتيجية الغموض: طالما مارستها الإدارات الأمريكية المختلفة في تضليل الخصوم في سياساتها الخارجية لتحقيق أهدافها الاستراتيجية، بحيث يصبح من الصعب التنبؤ بخطوتها التالية. تتجلى هذه الاستراتيجية بوضوح في سياق التضليل المتعلق بالحرب على غزة كما أوضحنا في الطرح السابق. هذا التناقض يتيح لها الحفاظ على صورة وسيط السلام، مع إبقاء الحرب في مستوى يحقق أهدافها، وعلى رأسها استعادة التفوق الإسرائيلي في المنطقة باعتبارها الظهير الأول للهيمنة الأمريكية.
- المرونة التكتيكية: الواقع أن الولايات المتحدة تتقن لعبة حافة الهاوية وخاصة في منطقة الشرق الأوسط، حيث تبرز على رأس سياستها الخارجية في المنطقة مرونة تكتيكية يتم التضليل من خلالها، والتحكم بخيوط اللعبة، سواء عبر التدخل العسكري أو الدبلوماسي. وذلك لضبط التوازن بين تحقيق أهدافها الاستراتيجية، والحفاظ على دعم محلي ودولي من خلال قرارات يتم اتخاذها بحسب الحاجة التكتيكية. تكتيكيًا، تحتاج اسرائيل إلى القضاء على حماس وحزب الله حتى تتمكن من الحفاظ على تفوقها الإقليمي أمام تعاظم قوة محور المقاومة وجبهات الإسناد، وبالتالي فإن مصلحة الولايات المتحدة هي في استمرار الحرب حتى تحقيق هذا الهدف. وهو ما يفسر سلوكها المتناقض على الرغم من منطقية وواقعية الرسالة أعلاه.
توظيف السياقات
لفهم الرسالة ضمن السياق الاستراتيجي يجب الإجابة عن الأسئلة التالية:
- ما هي الأهداف البعيدة المدى للعدو؟
- كيف تتناسب الرسالة مع هذه الأهداف؟
- هل تتماشى الرسالة مع الاستراتيجيات السابقة التي اتبعها العدو؟
- هل تخدم الرسالة الهدف الاستراتيجي (الهيمنة الإقليمية)؟
لفهم الرسالة ضمن السياق التكتيكي، يجب الإجابة على الأسئلة التالية:
- ما هو الوضع الحالي في ساحة المعركة أو المشهد السياسي؟
- ما هي التحركات العسكرية أو السياسية التي يمكن أن تواكب هذه الرسالة؟
- هل الرسالة تشير إلى تكتيك موجه لتجنب تصعيد فوري أو لإلهاء الخصم عن تحضيرات سرية؟
- هل الرسالة تهدف إلى الخداع أو الإرباك على المدى القصير؟
ثالثًا: محددات أو مسارات التضليل في الرسالة من خلال السياقات
- التضليل الميداني: مثل إعلان الولايات المتحدة عن إرسال حاملات الطائرات إلى المنطقة، مما يظهر تباينًا بين الرسالة الظاهرية (الرغبة في وقف الحرب) والهدف الفعلي (تعزيز السيطرة والردع).
- التضليل السياسي: على المستوى الداخلي يُستخدم التضليل هنا لتمرير السياسات القائمة على المصالح الانتخابية. أما الأهم وهو الهدف الذي نريد أن نصل إليه في هذا التحليل، هو تضليل أعدائها في المنطقة بأنها تتشارك نفس الفكرة والهدف من "إسرائيل" وهو استمرار الحرب حتى القضاء على المقاومة مهما كلف الثمن، وتتولى الولايات المتحدة لعب دور المايسترو بتحقيق الهدف دون الانجرار إلى حرب أو تصعيد أوسع في المنطقة.
- التضليل الإعلامي: إظهار مرونة في التعامل مع الرأي العام وتقديم خطاب أخلاقي أو "إنساني" من قبل السياسيين بهدف تهدئة الرأي العام دون التأثير على الأهداف الاستراتيجية، كما أنّ التركيز على "الخوف من الانفجار الكبير" قد يكون أسلوبًا لإضفاء طابع المسؤولية على موقف الولايات المتحدة، بينما في الواقع تستمر في دعم العمليات العسكرية الإسرائيلية.
رابعًا: مكافحة التضليل
الرسائل التي تعتمد على الإيحاء والمستندة إلى وقائع قد تبدو للوهلة الأولى صادقة، لكنها في الواقع تهدف إلى تضليل المحللين وتشتيت انتباههم. بهدف الحصول على التحليل الدقيق وكشف نوايا العدو الحقيقية، يمكن اعتماد مجموعة من التقنيات تساعد على التحضير الفعلي للمواجهة والتصدي لأي محاولات تضليلية:
1- التحليل السياقي: لرفع مستوى الوعي بين المحللين والقادة حول وجود رسائل خادعة قائمة على الواقع، يمكن تحليل أنماط سلوك العدو السابقة وتوقعاته المستقبلية قبل تبني الرسالة أو التحليل بناءً عليها، وهذه الخطوة هي مسألة ضرورية.
2- التحليل السلوكي والتاريخي: مراقبة إذا كان العدو قد استخدم استراتيجيات تضليل مشابهة في الماضي، فمن البديهي التشكيك في رسائله الحالية.
3- تحليل التوقيت: فحص التوقيت الذي تصل فيه الرسالة وتحليل الظروف السياسية أو العسكرية المحيطة بها. غالباً ما تكون الرسائل المضللة جزءًا من تكتيك لحرف الانتباه أو تخفيف الضغط.
4- تحليل الكلفة والمخاطر: فهم النوايا الفعلية يتطلب مراقبة الأنشطة على الأرض وليس الاعتماد فقط على التصريحات وما هو ظاهر على السطح. يتمثل هذا التحليل في تقييم التكاليف التي يتحملها العدو والمخاطر المحتملة التي يواجهها عند اتخاذه خطوات معينة في الصراع، مثل الكلفة العسكرية والكلفة الاقتصادية، والمخاطر السياسية والاستراتيجية التي من شأنها أن تؤدي إلى فقدان القدرة على التأثير وفقدان المكانة، إذا فشل العدو في تحقيق أهدافه.
الرسالة المضادة:
بينما تدعو الولايات المتحدة إلى وقف التصعيد في غزة وتروج لجهود إنسانية ودبلوماسية، فإن الهدف الأساسي من سياساتها على الأرض هو دعم الكيان في القضاء على المقاومة الفلسطينية. وعليه فإن إرسال حاملات الطائرات، وتوفير الدعم العسكري المستمر، وتسليح إسرائيل بالقنابل والمعدات الحديثة ليس إلا خطوات تهدف إلى إضعاف المقاومة وجبهات الإسناد. باستخدام تكتيكات العصا والجزرة، تعمل واشنطن على تبرير هذه الإجراءات تحت غطاء تحقيق السلام، بينما الهدف الخفي هو القضاء على المقاومة في غزة وتعزيز هيمنتها على المنطقة.
استنتاج
بالإضافة إلى أهمية التشكيك بكل ما يصدر من تصريحات أو سلوكيات من الولايات المتحدة، فإن دراسة الاستراتيجيات والعودة إلى الوقائع التاريخية والسلوك الاعتيادي الذي تعتمده الولايات المتحدة هو مسألة في غاية الأهمية لمكافحة التضليل خاصة في الرسائل المتخفية الأكثر خطورة مثل هذه الرسالة. عندما تنجح هكذا رسالة في التضليل فإن هذا يعني أن نستبعد أن الولايات المتحدة متورطة فعلًا في خطة القضاء على حماس. وبالتالي يؤثر ذلك على توقعات نجاح المفاوضات في الوقت الذي لا توجد فيه أي نية لإنجاحها واستمرار التعامل مع حماس كقوة فاعلة على الأرض. كما أن الأمر لن ينتهي بكسر حماس، بل سيتعداه إلى جميع أضلاع محور المقاومة. وعليه فإن الولايات المتحدة متورطة فعلًا بحرب استنزاف ناعمة متخفية مع محور المقاومة.