في المرحلة التي تترقّب فيها القوى الفاعلة العالمية ردة فعل الجمهورية الاسلامية الإيرانية على التصعيد الإسرائيلي بدعم كامل من الولايات المتحدة، تلعب العمليات النفسية الأمريكية دورًا أساسًا في استراتيجية الردع، لمنع إيران من ردّ عسكري، يؤدي إلى صراع ليس من مصلحة الولايات المتحدة على غير صعيد. علمًا أن معضلة مصالح واشنطن في المنطقة، هو الحفاظ على الهيمنة، في تحالفاتها مع الدول الفاعلة اقتصاديًا، وإبعاد نفوذ أعدائها -الصين وروسيا- عن المنطقة قدر الإمكان.
في بحثنا السابق تحت عنوان تضخم التهديد- رسائل الردع الأميركية تجاه محور المقاومة، تحدثنا عن ما يسمى بـ "الردع الدبلوماسي البارع"، وهو نهج يجمع بين الضغط والمشاركة. يشمل مجموعة عوامل ما يهمنا منها في هذا البحث، هو مبدأ "الحفاظ على وجود عسكري قوي للولايات المتحدة"، باعتباره فرصة لتعزيز الردع من دون الدخول في تصعيد من شأنه أن يضيف إلى صراعاتها القائمة صراعًا مباشرًا. أي ليس بالوكالة كما هو الحال مع روسيا، وليس باردًا كما هو الحال مع الصين. وعليه، ووفقًا لهذه الاستراتيجية، فإن تعهّد الولايات المتحدة بأنها ظهيرُ "إسرائيل" في أي تصعيد قادم مع إيران وجبهات الإسناد في محور المقاومة، واستقدامها المعدات العسكرية الثقيلة إلى المنطقة، يأتي -حتى الآن- في إطار التهديد اللفظي واستعراض الأصول العسكرية. إذ إن الضغوط الدبلوماسية، والتصريحات الرسمية من قبل القادة الأمريكيين، بدأت إيهام الرأي العام والجماهير المتنوعة، بأن الولايات المتحدة جاهزة للتدخل المباشر. مع إخفاء حقيقة أن المواطن الأمريكي لم ينتهِ بعد من تداعيات حروب الولايات المتحدة الاستنزافية في العراق وأفغانستان، التي امتدت لأكثر من عقدين من الزمن، وتركت آثارًا دائمة على الجيش والاقتصاد الأمريكي.
الواقع أن فشل حكومة نتنياهو في تحقيق أهدافها من حرب الإبادة على غزة على الرغم من مرور 10 أشهر (تاريخ اعداد هذا البحث من مدة الحرب)، على الرغم من تفوق جيشها اللوجستي والعسكري والتكنولوجي، ومحاصرته لحركة حماس، وتدمير قطاع غزة بشكل شبه كامل، وعلى الرغم من الإمداد العسكري والسياسي الكامل لها من الولايات المتحدة، كل ذلك يجعل واشنطن تتأمّل كثيرًا في سيناريوهات الصراع المحتمل لتثبيت القوة والهيمنة، بأن لا يكون طويل الأمد. فالبيت الأبيض بالطبع لا يساند نتنياهو فقط لأنه حليف استراتيجي، فالسعودية هي حليف استراتيجي أيضًا، ولم تساندها الولايات المتحدة في حربها على أنصار الله وإيران، إلا أنّ تثبيت الكيان المحتل هو عمود الأساس للهيمنة الأمريكية في هذه المنطقة التي يتم توريطها بالصراعات بشكل مستمر.
إذن دخل جيش الاحتلال في حرب استنزاف مع فصائل مقاومة شعبية وليس مرتزقة، وعندما نقول مقاومة شعبية فإننا نتحدث عن عقيدة قتالية بحسب المصطلحات العسكرية، وعن إرادة وصمود بحسب المصطلحات الاجتماعية، أي أننا نتحدث عن نفس طويل جدًا في القتال حتى آخر مواطن فلسطيني أرضًه محتلة. وهو الأمر الذي اختبرته الإدارات الأمريكية المختلفة من ديموقراطيين وجمهوريين، في فيتنام قديمًا والعراق وأفغانستان حديثًا، بأن التفوق العسكري أمام عدو يستخدم تكتيكات غير تقليدية، لا يمكنه أن يحسم المعارك. وأنّ الاستنزاف وهو سمة العدو غير التقليدي، من شأنه أن يًضعف الإرادة العسكرية والسياسية.
الواقع أن هذه الخشية لدى الأمريكيين، هي من عوامل الردع المضاد، التي تمنعهم من التدخل المباشر في تصعيد مع محور المقاومة حتى الآن. لما لذلك من أضرار هائلة على الاقتصاد الأمريكي بشكل خاص، وعلى الاقتصاد العالمي بشكل عام، ذلك أنّه لا يمكن فصل الحروب عن الاقتصاد. وأن ما يحسم المعارك هو فعالية الردع. وفي ورقة بحثية صادرة عن القيادة المركزية في الشرق الأوسط CENTCOM، تحت عنوان "تفكيك تعقيدات ديناميكيات الردع بين الولايات المتحدة وإيران"، يعترف الضباط الدوليون في القيادة المركزية، أنه يمكن التشكيك في فعالية الردع الأمريكي بسبب استراتيجيات إيران المضادة، والتي تشمل تحالفاتها البنيوية مع فصائل المقاومة في المنطقة.
وعليه، فإن قرار دخول الولايات المتحدة أي نوع من الحروب، لن يكون انسيابيًا كما يبدو في الإعلانات، خاصةً أن الحكومة الفيدرالية تعاني من اقتصادٍ مجهد، في ظل انهيار الأسواق المالية العالمية نتيجة التضخم والركود بعد وباء كوفيد 19 وحرب أوكرانيا، وأزمة الديون الأمريكية المرتبطة بالأزمات الاقتصادية العالمية، والازمات الداخلية، ومعضلة التضخم ورفع سعر الفائدة.
يمكن القول إن الأزمة المالية في الولايات المتحدة تحتاج إلى حلًّ إبداعي، يشبه حل البترودولار. عندما قام هنري كيسنجر في عهد ريتشارد نكسون عام 1972، بحلّ الأزمة المالية الناتجة عن انهيار "بريتون وودر" من خلال إلغاء ارتباط الدولار بالذهب وربطه بمبيعات النفط العالمية.
وعلى الرغم من أن الأسباب الرئيسية للأزمة المالية لعام 2008 كانت مرتبطة بالنظام المالي الأمريكي وخاصة فقاعة العقارات والمشتقات المالية المعقدة، إلا أن تأثير الحرب على أفغانستان منذ 2001، والحرب على العراق منذ 2003، كان ملموسًا في عدة جوانب. إذ جاء تمويل هذه الحروب عن طريق الاقتراض بالكامل. أدى إلى ارتفاع الدين العام وزيادة الفائدة المدفوعة على الديون.
ولتقليل الأضرار، قام الاحتياطي الفيدرالي بخفض أسعار الفائدة، مما ساهم في تدفق السيولة إلى الأسواق المالية. هذه السيولة الزائدة ساهمت في تضخيم فقاعة العقارات. أضف إلى ذلك تأثر الأسواق العالمية من ارتفاع أسعار النفط بسبب القتال في العراق. وتأثرت الاقتصادات في جميع أنحاء العالم.
وهنا يبرز السؤال الأهم، أيّ واقع اقتصادي اليوم يمكن أن تعوّل عليه الولايات المتحدة لتبدأ حربًا لا يمكن أن تتحكم فيما يمكن أن تتدحرج إليه. ولغة الأرقام تقول إنّ الاقتصاد الأمريكي منهك بما يكفي من الميزانيات الدفاعية في حال السلم، فما القول في وضع الحرب، والتي من المفترض أنها -إن حصلت- لن تنتهِ حتى تحقق الولايات المتحدة أهدافها، وهي إنهاء حالة الردع لدى محور المقاومة. وهو الأمر الذي لن ولا يستطيع محور المقاومة ومن خلفه إيران أن يسمح به، وبالتالي فإن حرب استنزاف طويلة الأمد بانتظار الأمريكيين وحلفائهم المحتملين في المنطقة.
وبهدف استبعاد ترجيحات التصعيد الإقليمي -على مستوى حرب تدخل فيها الولايات المتحدة- ، قمنا بإجراء هذا البحث، بهدف الحصول على أرقام لحساب التكلفة التقريبية لدخول الولايات المتحدة في حرب محدودة في "الشرق الأوسط"، في هذا الوقت من التاريخ، حيث الأمريكيون متورطون في حرب باردة مع الصين، يُحشد من أجلها حضورًا عسكريًا في بحر الصين الجنوبي، ونشاطًا مكثفًا في قواعدها في شرق آسيا، يُقدر جمعها بحوالي 90.7 مليار دولار في الميزانية الدفاعية لعام 2022. أما عن ميزانية الحرب في أوكرانيا، فقد اعتمدت الإدارة الأمريكية نهجًا مختلفًا عن تمويل حربي أفغانستان والعراق، وهو الاعتماد على الحلفاء في الاتحاد الأوروبي لإمداد كييف بالعتاد والأسلحة واللوجستيات لمواجهة الروس، بدل أن تتحمل الاستنزاف بمفردها. لكنها تحافظ على موقع الداعم الأكبر من حيث الإنفاق. حيث بلغ الإنفاق -المعترف به- للرأي العام الأمريكي ما يقارب 76.8 مليار دولار حتى أبريل نيسان 2023، بحسب تقرير cfr في مايو أيار 2024.
ختاماً، لا تحليل يعلو فوق مصداقية الأرقام. يتضح من خلال هذا البحث (يمكنك تحميل المادة الكاملة في الأسفل) أن مجرّد وقوف الأصول العسكرية بانتظار الرد الإيراني، سواء من أجل الاستعداد لدخول في حرب أو من أجل الردع، يتضح أن خسائرها في الشهر الواحد سيقارب المليار دولار. وفي حال قررت أن تدخل المهمة الانتحارية فإنّ المليار دولار سيكون تكلفة اليوم الواحد فقط في حال تم تنفيذ جولة واحدة متوسطة لكل أصل في اليوم الواحد. ويمكن إضافة عدد جولات لتصل تكلفة التدخل المحدود المتوسط الوتيرة إلى ملياري دولار في اليوم الواحد دون أن يتضمن تكاليف الأضرار بسبب استهداف الأصول.
ومن الممكن أن تبلغ التكلفة الاجمالية من 3 إلى 5 مليار دولار في حال وقوع أضرار متوسطة في الأصول البحرية. كل ذلك في حالة التدخل المحدود فقط دون الدخول في عمليات برية. ويمكن استخدام الجداول لاستشراف العشرات من السيناريوهات لم نقم بحصرها بسبب كثرة الفواعل factors والمتغيرات variables.
والجدير ذكره أن تكاليف الحروب بعد أزمة 2008 الاقتصادية ليست كما قبلها، ذلك أن أسعار الأسلحة والذخائر قد قاربت ضعف سعرها بسبب التضخم والركود. ناهيك عن أزمة الاقتصاد العالمي التي تنهك اقتصادات الدول الكبرى والناشئة على حدّ سواء، ولا فرق بين دولة نفطية وأخرى صناعية حتى تنقذ أحدها الأخرى كما حدث عام 1972.
وبناء على هذا التحليل، ينبغي استبعاد سيناريو الحرب الشاملة على مستوى الإقليم وتدخل قوى أجنبية فيها، والتفكير بسيناريوهات حيث سيتم استعادة توازن الردع من خلال قواعد اشتباك محصورة بأطراف النزاع.
للاطلاع على المادة الكاملة: