تدان إسرائيل هذه المرة من حيث تحاول انقاذ سرديتها. اذ أن عدد الشهداء المدنيين الذين ارتقوا خلال غارات متفرقة على امتداد الخريطة اللبنانية، يكشف حقيقة الادعاءات الإسرائيلية في اتهام حزب الله بزج مستودعات أسلحته بين المنازل. لا تقتصر مفاعيل هذا الامر على تسليط الضوء على ثغرات السردية الإسرائيلية بل على أهداف أخرى تطال النازحين، خاصة من المناطق الجنوبية الحدودية.
ارتكبت طائرات الاحتلال عدداً من المجازر خلال الأيام القليلة الماضية، منها في بوداي البقاعية (37 شهيداً مدنياً) ويونين (32 شهيداً من الجنسية السورية) كذلك الكرك (11 شهيداً) وبعلبك، بل تجاوز الاستهداف المناطق المحسوبة على بيئة الحزب لمناطق أخرى، كجبيل وكسروان وجون في الشوف، وهذا ما يعطي دليلاً إضافياً على ان لانتقاء الأهداف الإسرائيلية سبباً آخر منافياً لما تعلنه عن استهداف مقدرات صاروخية للمقاومة.
يعمد كيان الاحتلال إلى اعتماد ما يسميه "عقيدة الضاحية" التي تقوم على الاستخدام غير المتناسب للقوة مع الخصوم في استهداف المدنيين والبنية التحتية بوصفها سياسة عقاب جماعي لمنع الحاضنة من الاستمرار في دعم المقاومة.
خلال حملته الشاملة على لبنان في الساعات الماضية أعاد سلاح الجو الإسرائيلي للمرة الثانية تنفيذه لهذه العقيدة باختلاف أساسي وهو الزيادة في حجم وسعة وعدد وسرعة تنفيذ الضربات الجوية المتتابعة. وعلى الرغم من ان حجم الشهداء المدنيين والدمار الذي تم النظر إليه "إسرائيلياً" على أنه نصر عسكري، كان كبيراً، إلا أنه لم يحقق أي من أهداف الحملة الجوية المتمثلة في "إعادة المستوطنين إلى الشمال". في حين أن مزاعمه بالقضاء على نسبة كبيرة من قدرات المقاومة وهو الأمر الذي دعمته البروباغندا الإعلامية الغربية الإسرائيلية والتي تزامنت مع القصف الجوي، سرعان ما اثبتت عدم جدواها، اذ ان الصواريخ كانت تنطلق مرة أخرى من الوديان التي استهدفتها الطائرات الإسرائيلية عشرات المرات.
من ناحية أخرى، يحاول الكيان استخدام النازحين كورقة ضغط لاستخدامها في المفاوضات (نازحو الشمال مقابل نازحي الجنوب) وتكريس حالة النزوح من خلال الاستمرار بقصف المنازل المدنية وتصويرها على أنها معرضة للاستهداف، خاصة وأن مختلف المنازل التي استهدفت لم تكن تحتوي على أي من الأسلحة.
ويمكن تلخيص فشل الاستراتيجية الإسرائيلية بعدد من النقاط:
-قصفت المقاومة بشكل غير مسبوق الجليل الأعلى والأسفل وصولاً إلى حيفا، كما استهدفت لأول مرة مستعمرات بالصواريخ الثقيلة المدمرة وبشكل كثيف.
-طبقت المقاومة في مساحة الاستهداف المركّز في الجليل مناورتها النارية في مناطق ثقل أساسية معظمها عسكرية تؤثر على جميع أشكال المناورة التي سينفذها الاحتلال بعد فشل حملته الجوية على لبنان.
-تبين للعدو أن حركة النزوح الجماعية في اليوم الأول من الحملة الجوية هي افساح مؤقت للمجال لمصلحة المقاومة من بيئتها الحاضنة لتمنحها أفضلية في المواجهة والمناورة بالنار مع العدو دون أن تسمح باستغلال البيئة الحاضنة.
-عدم قدرة الاحتلال على منع التأثير المعنوي الايجابي الكبير الذي أهدته المقاومة لبيئتها الحاضنة بعدما أطلقت عمليات ردها النوعية على العمق الاسرائيلي.
-توسيع دائرة التأييد والتضامن مع خيار المقاومة إلى معظم فئات الشعب اللبناني والمقيمين فيه مما يحول معظم لبنان تقريباً إلى بيئة تساهم في احتضان النازحين.
من ناحية أخرى، فإن استهداف المدنيين العزّل يحرج أطياف المجتمع أولاً للوقوف إلى جانب خيار ادانة العدوان الإسرائيلي، تماماً كما يحرج استهداف المدنيين السوريين الذين تاجروا بدمائهم طيلة السنوات من "دعاة المعارضة" لإدانة هذا العدوان أيضاً.
تجاوز عدد الشهداء من المدنيين والأطفال الفلسطينيين الـ 41 ألفاً، ورغم ذلك لم تستطع آلة القتل الإسرائيلية من القضاء على المقاومة في قطاع غزة. ومع علم قادة الاحتلال قصور هذه الاستراتيجية عن تحقيق أهدافهم، إلا ان شح الخيارات يجعل من المدنيين ورقة ضغط لوضعها على طاولة المفاوضات، تساعد بذلك آلة إعلامية تعمل كمطبخ للأخبار المزيفة لضخ الأكاذيب بهدف التأليب ضد المقاومة.