التطورات الميدانية العميقة والمتسارعة خلال الشهرين الأخيرين نتيجة اغتيال القائد الجهادي الكبير، الحاج فؤاد شاكر؛ وانفجارات على مستوى البلاد ناجمة عن تخريب أجهزة الاتصالات، مجزرة البیجر؛ واستهداف وتدمير جزء من القوة الصاروخية لحزب الله؛ واغتيال مجموعة من قادة المقاومة البارزين أمثال الحاج إبراهيم عقيل ورفاقه في السلاح، ومن ثم اغتيال القائد البطل المؤمن العربي، سید شهداء المقاومة، الشهيد الكبير، سماحة السيد حسن نصر الله (طاب ثراه) أثار مجموعة من التكهنات في الأوساط الإعلامية والسياسية، وفي ذهن الجمهور بأن التنظيم القيادي وشبكة العمل في حزب الله قد ضعفا بشدة، وأصبح هذا التنظيم السياسي والعسكري القوي الآن في حالة من التخلي، وتحول مجاهدوه إلى مقاتلين تائهين.
إن الدعاية السياسية الضخمة لوسائل الإعلام المنحازة للجبهة العبرية تؤكد باستمرار على نهاية حزب الله ودخول لبنان بمرحلة جديدة من حياته السياسية في ظل غياب المقاومة، وضرورة إعادة بناء الهيكلية السياسية في لبنان من جدید، وفي هذا الصدد، كان بعض السياسيين اللبنانيين يتحدثون عن موافقة حزب الله على قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1701 القاضي بعودة مقاتلي حزب الله إلى الضفة الشمالية لنهر الليطاني، وإنشاء منطقة عازلة بحضور الجيش اللبناني وقوات حفظ السلام الدولية (اليونيفل) على الحدود مع فلسطين المحتلة.
إلا ان هذا المخطط في قنوات الاعلام العبرية والموالية لها بعد الهجوم الصاروخي الناجح الذي نفذه حرس الثورة الإسلامية ضد المواقع العسكرية والقواعد اللوجستية الإسرائيلية في قلب الأراضي المحتلة، واجه تحديًا مفاجئاً وخطيرًا؛ كان العمل العسكري الدقيق والحاسم والتاريخي الذي قامت به إيران ضد المناطق الأكثر أمانًا في العالم، والتي تتمتع بطبقات عديدة من الدفاع الجوي والدرع الدفاعية، علامة على عمق ضعف كيان الاحتلال؛ وشهدنا بعد العملية الوعد الصادق 2 مفاجآت جديدة من المقاومة الإسلامية في لبنان؛ من تحليق طائرة الاستطلاع المسيّرة "الهدهد" في عمق الأراضي المحتلة، وأخيراً العمل المهم والاستراتيجي الذي حدث في الأيام الأخيرة بهجوم سرب من الطائرات المسیرة على مقر قيادة قوات الغولاني في بنيامينا بحيفا، تشير جميعها إلى تغيير لافت واستراتيجي في قيادة المعركة من قبل المقاومة. ومن جهة أخرى، ان الدرع الدفاعي القوي المنيع في الحدود الجنوبية، والمقاومة البطولية التي أظهرها مجاهدو حزب الله في صد قوات النخبة غولاني في الحافة الأمامية على الحدود مع فلسطين المحتلة تأکید آخر علی هذا التغییر الاستراتیجی.
إن اتساع نطاق الهجمات وزيادة عمق ومدى أسلحة المقاومة خلال أيام بعد استشهاد قائد المقاومة، وغیاب قادة الجيل الأول لحزب الله هي تطورات مهمة فی هذا المجال؛ وبحسب وسائل إعلام المقاومة الرسمية، إن عدد عمليات حزب الله ضد جيش الاحتلال الاسرائیلی يصل أحياناً إلى 40 عملية يوميا، ما أدى إلى إلحاق أضرار كبيرة بالجنود والضباط وآليات العدو وقدرته العسكرية والاستخبارية.
بيانات الإعلام الحربي للمقاومة والمواقف التي تنتشر على وسائط التواصل الاجتماعي، بالتزامن مع نشر فيديوهات عن بعض قدرات حزب الله العملياتية وتنظيمه القتالي، هي جزء مهم من عملية الحرب النفسية الناجحة للمقاومة ضد العدو الصهيوني بهدف خلق توازن ردع، مما أدى إلى زيادة الضغط الداخلي على مجلس الحرب الإسرائيلي. إن استراتيجية الهجوم على حيفا وتل أبيب في حال العدوان الإسرائيلي على الضاحية الجنوبية وبيروت أدی الى توازن الردع هذا.
كان لافتاً آداء المقاومة ونهجها الجديد بالرد على تهديدات الكيان الصهيوني بإخلاء المناطق السكنية والتهجير القسري لسكان جنوب لبنان نحو المناطق الشمالية وسوريا، حيث قابلته المقاومة بتهديدات قوية للمستوطنين لا سيما رسالتها الأخيرة الى حيفا ومدن إسرائيلية أخرى التي تدعوهم الى إخلاء منازلهم القريبة من القواعد العسكرية تفاديا لهجمات انتقامية من قبل المقاومة.
والسؤال هی كيف يمكن حدوث هذه التطورات العميقة في غياب القيادة التي يدعي الكيان الصهيوني انه قضى عليها؟ كيف استمر العمل الميداني لحزب الله دون توقف لحظة واحدة، حتى خلال الهجوم على مقر الحزب في حارة حريك واغتيال سيد المقاومة، ولم يكن لغياب القيادة تأثير كبير على التطورات الميدانية، بل الذي حصل عكس كل التوقعات، حيث كثّفت المقاومة من عملياتها ومن شعاع أهدافها؟
توسيع الحزب لنطاق أهدافه وعملياته، لا سيما في الحافة الأمامية على الحدود، والاستطلاع داخل الأراضي المحتلة، وجمع المعلومات، والخدمات اللوجستية و القيادة السياسية وغيرها من المهام، تطرح هذا السؤال كيف یمكن للحزب تنفيذ كل هذه الوظائف کاملة في غياب القيادة المركزية؟
كل هذه الأسئلة تثير افتراضاً، وهو أن القيادة والسيطرة في حزب الله هيكل متطور ومجّرب، وله خصائص لافتة من حيث قابلية الإصلاح والتنقل ما يمكّنها من الاستمرار في عملها ومهامها بسرعة حتى في حالة عدم وجود أي مستوى من القيادة المركزية. ویبدو أن هذه السمة البارزة تعززت بقوة خلال الحرب ضد الإرهاب والجماعات الإرهابية في سوريا، وخلال العام الأخير من عملية الدعم والاسناد لغزة، وأصبحت الآن جزءا ًمهماً من خصائص الهيكل التنظيمي لحزب الله.
في السنوات التي تلت حرب الـ 33 يوماً في سنة 2006، وصلتني هدية قيمة من أحد الإخوة في المقاومة الإسلامية، عنوانها "المفاجآت". وفي هذا الفيلم الوثائقي تمت مناقشة السرد الفني لعمليات المقاومة المفاجئة ضد الكيان الصهيوني في تلك الحرب، كان قائد المقاومة يتحدث باستمرار عن المفاجآت التي یعد بها العدو، حيث أطلقت وسائل الإعلام العبرية والمستوطنين على الشهيد السيد حسن نصر الله "العدو الصادق".
كان هذا الوثائقي مليئا بالكلمات الملحمية لذلك الشهيد العزيز والسعيد، الذی كان وعد العدو باستمرار بـ"مفاجآت" جديدة. اليوم وبعد أن رأيت هذه القيادة الميدانية والآداء الرائع للمقاومة في ساحة المعركة، تذكرت مرة أخرى مفاجآت قائد المقاومة السيد الشهيد؛ وكأن حزب الله وقيادته امتهنت خلق المفاجآت الكبرى في الوقت الذي ينتظر الجميع انهياره. وما هذا إلا تفسير لهذه الآية القرآنية: «وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ».
نعم! أنا مثل کثیرین آخرین، لا أعرف القادة السياسيين والعسكريين الجدد لحزب الله؛ لكن هذا الأمر واضح من العلامات الميدانية التي تؤکد حقیقة أن حزب الله اصبح منظمة متقدمة ومتطورة جداً یمکنها حتی فی حالة غیاب القیادة ان تتبع خریطة الطریق المرسومة مسبقاً دون أدنى انقطاع؛ وكأن سيد المقاومة ومساعديه من القادة الشهداء، مغنية وشكر وعقيل وكركي وغيرهم ما زالوا يقودون ويخططون للعمليات الناجحة، ويعدون العدو بالمزيد من المفاجآت فی المعركة.
نعم! هذا هو اعتقاد القلبي بأن الشهداء أحياء خالدون شهود صادقون فی يوم القيامة. رحمهم الله؛ رحمة واسعة وحشرهم مع النبيين والصالحين والشهداء والصدّيقين؛ آمين يا رب العالمين!
المصدر: باحث وكاتب سياسي من إيران
الكاتب: محمد محمودي كيا