شغلت السياسة الإسرائيلية نهاية الأسبوع الأخير من شهر تشرين الأول 2024، ثلاث قضايا: رعاية قطرية مصرية أمريكية لمخطط جديد لصفقة تبادل الأسرى بعد استشهاد الزعيم السياسي لحركة حماس، يحيى السنوار؛ الرد الإيراني مجدداً على الرد الإسرائيلي وعد وقف تبادل الضربات؛ والثالثة وقف الحرب في لبنان.
نشطت السردية العبرية حول وقف الحرب، تحديداً منذ 28 تشرين الأول، بعدما ناقش وزير الدفاع الأمريكي أوستن ووزير الحرب غالانت "فرص التوصل إلى اتفاقات دبلوماسية في لبنان وغزة، تسمح بعودة المختطفين وعودة سكان الشمال إلى منازلهم"، حسبما أفاد مراسل إذاعة الجيش الإسرائيلي. كثرت التصريحات والتسريبات الرسمية والإعلامية، حتى أوحت بجو من الإيجابية يكاد يعتقد معها المتلقي أن الحرب انتهت. قاد المفاوضات وزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي ومستشار الأمن القومي الأمريكي. واستمرت السردية حتى زيارة مبعوثي واشنطن الكيان المؤقت، بريت ماكغورك وعاموس هوكشتاين، والعودة من تل أبيب دون زيارة لبنان، ما يعني انعدام أي أجواء إيجابية تساهم في وقف الحرب على لبنان.
إدارة توقعات الحرب
يفيد تقاطع التصريحات والإجراءات التي يقوم بها الكيان إلى عدم وجود جدية لدى العدو في وقف الحرب، وإنما يعيد سيناريو مفاوضات غزة من تأمين وقت وتقطيع الحرب إلى مراحل والانتقال من واحدة إلى أخرى. يستثمر الإسرائيلي عناوين استراتيجية في الداخل ليحقق مطامع عدوانية توسّعية، سبق أن انكشف إطارها العام تحت مسمى "تغيير خارطة المنطقة".
التعبئة وتحديد الأهداف
بالنسبة للكيان المؤقت، الحرب وجودية وأيديولوجية بامتياز، فهي حرب "النهضة"، ويلجأ نتنياهو إلى العامل الديني لحشد الدعم المطلوب والتعبئة الضرورية للاستمرار. يشير تقاطع التصريحات والتسريبات والإجراءات الإسرائيلية إلى أن الهدف الإسرائيلي التكتيكي المركزي من الحرب على لبنان هو إزالة تهديدات حزب الله ومنع إعادة بناء حزب الله لقدراته. في التقديرات الاستراتيجية الإسرائيلية، يرى الكيان أن ما حققه على صعيد الحرب في غزة واغتيال قادة المحور في فلسطين ولبنان يخدم بشكل صحيح استراتيجية الكيان الطويلة المدى في "تفكيك محور الشر وتدميره ومنع إيران من امتلاك الأسلحة النووية"، و"قطع أذرعه في الشمال والجنوب"، على حد تعبيرات نتنياهو.
وبينما تهدف السياسة الأميركية إلى تعزيز مسار "التطبيع" مع دول المنطقة، لكنه مجرد طموح، وليس هدفًا بحد ذاته يسعى إليه ويقدم التنازلات المكلفة لأجله، ما يفيد المنحى التوسعي العدواني الذي يسيطر على سياسة نتنياهو في الحرب الجارية. يرى رئيس الحكومة الإسرائيلية أن الهدف الأساس هو "إلحاق الهزيمة بالمقاومة"، الأمر الذي سيقدم تطمينات لدول المنطقة وعودة تعزيز الدور الوظيفي للكيان، وتاليًّا، تأمين دفعًا إيجابيًّا في مسار التطبيع. وعليه، لا يشغل الكيان نفسه بموضوع التطبيع لأنه يعتبرها نتيجة مرتفعة الترجيح بعد هزيمة المقاومة، وعلى هذا الأساس يعمل الكيان.
ويلجأ الكيان إلى مجموعة من الإجراءات بغية تأمين الاتساق بين الأهداف الاستراتيجية والتكتيكية، وفي مقدمها: التنسيق الأميركي الإسرائيلي في تمرير المشروع السياسي الجديد في المنطقة، وتبادل الأدوار بحيث يناور الإسرائيلي بعدم توسيع العملية البرية بينما يسعى الأمريكي إلى حصار بري وجوي ومائي يولد المزيد من الضغط السياسي والشعبي، وباعتماد سياسة الأرض المحروقة ومحو القرى الأمامية بغية إنشاء حزام أمني حدودي داخل الأراضي اللبنانية؛ يبعد الخطر عن سكان الشمال حال عودتهم وقيام أي تهديد مستقبلي، كما يؤمن حرية العمل باتجاه المزيد من العمق اللبناني وكذلك رفع الأكلاف على بيئة المقاومة وإظهار حزب الله بانه غير قادر على حماية قاعدته أو وجوده، وتاليًّا نزع الشرعية السياسية عنه، وتمرير انتخاب رئيس جمهورية غير مرتبط بحزب الله. كما يشغل التضليل أو التلاعب التفاوضي حيّزًا مهمًّا في الإجراءات التي يعتمد عليها الكيان في البرنامج الدعائي لوقف إطلاق النار والذهاب إلى تسوية في لبنان.
التضليل أو التلاعب التفاوضي
روج العدو لمجموعة من المشكلات وأعلن عن بعض الإجراءات التي قد توحي لدى الطرف الآخر بوجود إتجاه جدي نحو وقف الحرب، وتنشر بعض "الإيجابية الموهومة" لدى الطرف الآخر، بينما تهدف منه نشر الإحباط وفقدان المعنويات. تطرح المؤسسة العسكرية مشكلة الحاجة إلى "تجنيد موسع" نتيجة فقدان الجنود وازدياد سوء الوضع على الجبهة الشمالية وثقل الاستنزاف، بالتوازي مع الإعلان عن "استعداد الجيش لتسريح جنود احتياط من الخدمة على جبهة لبنان". وعلى الرغم من احتمال صحة هذه المشكلات، إلا أنها تُستغلّ جيدًا في تضليل الطرف الآخر، كما هو دأب المفاوضات في غزة على مدى عام كامل وأكثر.
وفي حين برز خبر اقتراب العملية البرية "من تحقيق هدفها وهو إزالة تهديد الصواريخ المضادة للدروع"، أشيع جوٌّ من الاهتمام والجدية لدى نتنياهو بغية "إنهاء الحرب في لبنان والتوصل إلى تسوية سياسية"، من خلال الإعلان عن عدة اجتماعات له مع عدد من الوزراء ورؤساء الأجهزة العسكرية والمخابراتية وكبار قادة الأجهزة الأمنية بشأن الجبهة اللبنانية. وشارك نتنياهو في التضليل أو التلاعب التفاوضي، وزير المالية سموتريتش الذي صرّح بان "الحرب في الشمال ستنتهي بنهاية العام. وربما قبل ذلك بالنسبة لي، وعام 2025 هو عام الخروج من الحرب بالنسبة لنا"، علمًا انها قد تكون مناورة من سموتريتش لتمرير ميزانية العام الجديد، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ الذي يتحدث هو صاحب أيديولوجيا الحاخام دوف ليئور والحاخام غينزبورغ والتي تنص على الاستيطان من النيل إلى الفرات، بشهادة وزير الجيش ورئيس الأركان الأسبق موشيه يعلون.
باتجاه مماثل، انتشرت تصريحات التضليل حول وجود "تقدم كبير على طريق التسوية في لبنان"، وأن "المبعوث الأمريكي هوكشتاين يعكف على صياغة مسودة اتفاق بين إسرائيل ولبنان"، بل "وتم الاجماع على نقاط الاتفاق بين الجهاز الأمني وأغلب المستوى السياسي". وفي نفس اليوم الذي نقلت فيه القناة العبرية i24 خبر استعداد الجيش الإسرائيلي لإنهاء العملية وانخفاض حجم القوات عند خط التماس مع لبنان بشكل كبير، وأن الجيش يقف عند خط معين، في نفس اليوم، كانت تدور اشتباكات عنيفة على أطراف مدينة بنت جبيل بعد فشل جيش الاحتلال التمركز على أطراف مدينة الخيام فيما لا يزال الاحتلال يتلقى الضربات على أطراف مارون الراس منذ اسابيع ويفشل. وعلى الرغم من عودة هوكشتاين إلى تل أبيب والانطباعات السلبية التي رافقت الحركة الأمريكية، عاد الحديث عن "استعداد الجيش للانسحاب" في 4 تشرين الثاني الجاري، في وقت نقل مراسل كان، عميحاي اشتاين، عن قناةMTV اللبنانية أن الوسيط الأمريكي هوكشتاين "سيصل إلى الشرق الاوسط الأسبوع المقبل". فهل من قبيل الصدفة أن يتزامن إعادة تسريب إحياء المفاوضات مع رفع الجيش الإسرائيلي حالة التأهب للهجوم الإيراني؟! بيد أنه وللمفارقة، وفي نقطة تقاطع ثالثة مع الخبرين نشرت وسائل إعلام إسرائيلية خبرًا مفاده أن الكيان "نقل إلى رئيس حكومة لبنان رفضه وقف إطلاق النار"، في سيناريو قديم من الضغط وآلية الشد والتراخي.
الشروط إسرائيلية والرعاية أمريكية
يستند الاتفاق بالعموم على القرار 1701 لكنه في جوهره يتجاوز أساس القرار ويعيد إحياء قرارات سبق ان أدخلت البلاد في فوضى سياسية دولية خارجية وطائفية داخلية، كترسيم الحدود مع سوريا ونزع سلاح حزب الله. نتنياهو أجاد لعب دور "المفاوض" المتعاون مع واشنطن، وأعلن "موافقته على تسوية في لبنان تضمن عودة الإسرائيليين". وجاءت الشروط إسرائيلية أمريكية تحاول حصاد إنجازات شهر أيلول 2024، وما نجم عنه من اعتقاد بأن الكيان المؤقت بات الطرف الأقوى في التفاوض، بعدما حقق مجموعة من الإنجازات الاستراتيجية باغتيال قياديي حزب الله من الرعيل الأول، وتحييد الآلاف من العناصر، وتقويض نسبة من القدرات الصاروخية لدى حزب الله، تفوق الـ 60 – 70%، بحسب السردية العبرية. بنود التسوية أو الاتفاق الذي ضجت بها المحطات الإعلامية على اختلاف جنسيتها تشكل عوامل مساعدة لتحقيق الكيان الأهداف المعلنة؛ القصيرة والطويلة المدى. وقد عرف منها:
- "وقف إطلاق النار لستين يوماً تستمر خلالها مداولات الاتفاق الدائم".
- "شرعية التصرفات الإسرائيلية في لبنان بحال محاولة حزب الله ارتكاب انتهاكات، وهو ما يترجم بـ"دعم أميركي كامل في حق الكيان في العمل ضد نقل الأسلحة الإيرانية إلى لبنان وضد دخول حزب الله إلى المنطقة القريبة من الحدود"، وتالياً "التحرك بشكل مستمر سواء بالنيران أو بالإغارات البرية إذا عاد حزب الله إلى خط الحدود أو خرَق الاتفاق وفق المفهوم الإسرائيلي، ما يعني أن المطلوب هو أن تصبح الحركة الإسرائيلية في لبنان كما في سوريا، لجهة الغارات والاغتيالات وانتهاك الأجواء.
- "دعم أمريكي لعمل إسرائيل على منع حزب الله من الاقتراب إلى الحدود".
- "انسحاب الجيش الصهيوني من لبنان خلال أسبوع حال الاتفاق واستئناف عملياته حال جرى خرق الاتفاق".
- "التزام أميركي بدعم مطلب الكيان بفروض تجريد المنطقة من السلاح حتى نهر الليطاني".
وتظهر خطورة المخطط الإسرائيلي الأمريكي ومصير الحرب على لبنان في سقوط كل الاعتبارات التكتيكية لصالح الأغراض الاستراتيجية. بمعنى آخر، لا يقيم الإسرائيلي وزناً لرأي المؤسسة الأمنية في صعوبة "تحقيق أكثر مما تحقق"، وترجيح تعرض الجيش "للمزيد من الخسائر"، أو حتى اقتراب الحرب "من استنفاد أهدافها"، والسعي نحو "إنهاء الحرب بسرعة في الشمال"، وفق بعض التحليلات. هذه الرؤية تؤمّن للإسرائيلي المزيد من الوقت وارتكاب المزيد من المجازر بحق المدنيين لرفع فعالية الضغط الذي يظهر أنه غير ناجع حتى الآن مع الدولة اللبنانية أو المقاومة.
طبيعة الشروط التي قوبلت بالرفض على المستوى الرسمي اللبناني المدعوم بإنجازات ميدانية أعادت التوازن نسبياً إلى قوى الحرب، وقرأها المبعوث الأمريكي جيداً في آخر زيارة إلى بيروت، وأثناء الزيارة الأخيرة إلى تل أبيب دون المرور ببيروت. وتتعلق نقاط الخلاف "بضمان حرية عمل إسرائيل"، وفق ما نقلته يسرائيل هيوم، نقلًا عن مسؤولين إسرائيليين. وكذلك فعل بعض المحللين الإسرائيليين الذين تيقنوا أن مقدمات فرض شروط المفاوضات لم تنضج بعد، والمسار يتجه نحو المزيد من التعقيد، فالميدان أظهر أن الاتفاق لن يتم وفق الصيغة الإسرائيلية الأمريكية. وعليه، يتوجب على جيش الاحتلال الاستمرار بالعملية البرية والتوسع بها، والتغوّل بالحرب الجوية، وإدخال عناصر ضغط جديدة، كاستهداف مراكز الثقل الاقتصادي لقاعدة المقاومة، كما في مدن بنت جبيل وصور والنبطية وبعلبك، والضغط على المفاوض الممثل عن حزب الله، بشخص رئيس مجلس النواب، الأستاذ نبيه بري.