مقاومة الضفّة.. من العمليات المتقطعة الى المعركة

معركة "بأس جنين"

تحوّل واضح في جنين من ناحية طبيعة المواجهة مع الاحتلال ومن ناحية تطور عمل المقاومة. فالأخيرة التي كان ينحصر عملها على العمليات المتقطّعة والموضعية تجاه الحواجز العسكرية، أو تجمعات المستوطنين، أو تصدٍ لاقتحام ساعات – على أهمية هذه الأفعال التي شكّلت أرضية مناسبة لإعادة المقاومة المسلّحة الى الضفة – هي، وللمرة الثانية، تثبت في الميدان أنّها قوّة قادرة على خوض معركة. وما إطلاقها لعملية "بأس جنين"، بعد "بأس الأحرار"، الا دليل على أنّ المقاومة امتلكت من العدّة والعديد ما يسمح لها بمواصلة القتال لأيام، اذ يتحدّث كيان الاحتلال عن عدوان قد يستمر لـ 72 ساعة.  

بالنسبة لكيان الاحتلال، كان الأمر في جنين ومخيمها يقتصر أيضًا على اقتحام محدود لساعات، هدفه توجيه ضربة محدودة ضد خلية أو قائد ضمن نظرية "القتل البطيء للمقاومة"، تجنبًا لعدوان واسع يدرك الاحتلال أثمانه وتداعياته. فشلت حملة الاقتحامات والاغتيالات المتكرّرة على مدار سنتين على الرغم من استشهاد العديد من كوادر كتيبة جنين التابعة لسرايا القدس، وذلك نتيجة التصدي المستمر وعقيدة القتال حتّى النفس الأخير التي تمتّع بها المجاهدون ولاسيما المنتسبين الى حركة الجهاد الإسلامي. الى جانب عامل آخر مهم، وهو الاحتضان الشعبي والالتفاف الجماهيري حول الكتيبة من جنين ومن مختلف مناطق الضفة الغربية.

اضطرت مستويات الاحتلال، وخاصة في ظل وجود شخصيات اليمين المتطرّف في الحكومة الحالية الى التوجّه نحو مسار العدوان الواسع على جنين ومخيمها بزعم "تفكيك البنية التحتية للمقاومة"، و"استعادة الردع" المتآكل بسبب العمليات النوعية، لكنّ هذا الخيار كان كفيلًا بالكشف عن القدرات والإمكانات التي اكتسبتها كتيبة جنين في فترة قصيرة منذ تأسيسها (عام 2021).

العدوان على جنين

في تفاصيل العدوان الذي أطلق عليه الاحتلال اسم "المنزل والحديقة"، قال المحلل العسكري في صحيفة "معاريف" العبرية، تال ليف رام، إنّ "كمية القوات التي تدخل جنين هي الأكبر منذ عملية السور الواقي.. نية الجيش عملية عسكرية سريعة تستمر يومين، لكن يبدو أن الأوضاع قد تتدحرج لمناطق أخرى".

 بدورها علّقت قناة "كان" العبرية أنّ الاجتياح البري في جنين "يجري بقيادة لواء الكوماندوس بحجم قوات لم يُعْهد في المنطقة منذ الانتفاضة الثانية". وقد شاركت الى جانب "الكوماندوس"، قوات من لواء المظليين، وقوات المستعربين، ووحدة اليمام، وحدة "ايجوز". وقد قُدّر عدد الجنود بأكثر من 1000.

بالإضافة الى ذلك، أشار المحلل العسكري في موقع "واللاه" العبري، أمير بوخبوط، أن "منسقي الشاباك يرافقون دوريات الجيش الإسرائيلي في منطقة مخيم جنين. وهم مسؤولون عن جلب المعلومات الاستخباراتية والتعرف على المنطقة على مرحلتين: مدخل مخيم جنين، ومعلومات استخباراتية عن أماكن العبوات في الطرقات، مواقع المعامل، وأماكن اختباء المطلوبين".

أمّا جوًّا، فقد مهّدت طائرات الاحتلال الحربية التي قصفت أكثر من 15 موقعًا في مخيم جنين، لاجتياحه برّا. والمخيم مساحة جغرافية لا تتعدى الكيلو متر الواحد، مع توسعته على مرور السنوات والنمو السكاني على أطرافه. ما أدى الى ارتفاع عدد من الشهداء وإصابة عشرات آخرين. وتحدّثت مستشفى "جنين" الحكومية أنها لم تشهد هذا القدر من الإصابات الخطيرة منذ العام 2002 (معركة مخيم جنين إبّان انتفاضة الأقصى).

كتيبة جنين.. صناعات محلية جديدة ومفاجآت قادمة

لم تمنع هذه الهجمة الكبيرة للاحتلال واجرامه بحق الشعب الفلسطيني، من أن تتحمّل كتيبة جنين، والى جانبها المقاومون من العديد من الفصائل الأخرى، مسؤولية الرّد على العدوان. وأعلنت الكتيبة منذ بدأ معركة "بأس جنين" أنها:

_ أدخلت الى الخدمة العسكرية لأول مرّة عبوات "طارق 1" الناسفة، تيمنًا بشهيدها طارق الدمج وهو أحد مسؤولي وحدة الهندسة في الكتيبة الذي استشهد في الثامن من شهر كانون الأول / ديسمبر 2022.

_ تمكّنت الكتيبة من إعطاب آليات جيش الاحتلال المصفّحة، بفعل عبوات "التامر" التي دخلت الى الخدمة الميدانية في معركة "بأس الأحرار" في جنين في التاسع عشر من حزيران / يونيو 2023، تيمنًا بمسؤول وحدة الهندسة في الكتيبة الشهيد تامر النشرتي.

_ أحبطت محاولات تقدم جيش الاحتلال على أكثر من محور بعد خوض اشتباكات عنيفة.

_ استدرجت قوات الاحتلال الى الكمائن واستهدفتها بالرصاص. وقد أصدرت الكتيبة بيانًا حول إحدى الكمائن، أعلنت فيه " بعون الله وتوفيقه تمكنت إحدى مجموعاتنا من التسلل خلف قوات الاحتلال المتوغلة على أطراف محور الدمج واستهدافها بصليات مباشرة ومركزة من الرصاص وعدد من القنابل اليدوية".

بالإضافة الى اشتباكات مشتركة مع مجموعات المقاومة من فصائل أخرى. واعترف موقع "والاه" العبري أنّ "القوات الخاصة تواجه تحديات كبيرة في جنين، فالمسلحون على الأسطح والعبوات في الشوارع".

وما إقران رقم (1) مع اسم العبوة "طارق"، الا تأكيد على أن كتيبة جنين تزيد من وتيرة تصنيعها العسكري، وهي امتلكت او تعمل على تجهيز عبوات جديدة من جيل عبوة "طارق". وفي هذا السياق، شدّد قيادي في سرايا القدس - كتيبة جنين، في حديثه مع فضائية "فلسطين اليوم" الفلسطينية أنه "لا زال في جعبتنا المزيد والمزيد من المفاجآت التي ستذهل العدو وتذل جيشه، ونقول للغبي نتنياهو وقيادة جيشه الحمقاء أننا لم نبدأ بعد".

وحدة غزّة – الضفّة: معادلة ساهمت في تصاعد المقاومة   

رفع جيش الاحتلال مستوى التأهّب على الجبهات الأخرى، وخاصة عند قطاع غزّة خشية من إطلاق المقاومة الفلسطينية للصواريخ ردًا على العدوان في جنين. بذلك أكّد الاحتلال بنفسه فشل أهداف العدوانيين الماضيين على غزّة "وحدة الساحات" (آب /أغسطس 2022) و"ثأر الأحرار" (أيار / مايو 2023)، وعدم فكّه لترابط الساحات.

في هذا الإطار أيضًا، صرّحت الغرفة المشتركة لفصائل المقاومة الفلسطينية، أنها "في حالة انعقاد دائم لمتابعة العدوان الهمجي على جنين، وإن المقاومة في كل الساحات لن تسمح للعدو بالتغول على أهلنا في جنين أو الاستفراد بهم". وكان التصريح لرئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، أنّ "الدم الذي يراق على ارض جنين سيحدد طبيعة المرحلة المقبلة في كافة الاتجاهات والمسارات، والمقاومة في كافة أماكن تواجدها تعرف كيفية الرد على هذا العدوان".  تبعه تصريح الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي، زياد النخالة، الذي قال "ما يجري في جنين هو مذبحة يقوم بها العدو ضد الشعب الفلسطيني، والمقاومة وسرايا القدس ستقوم بواجبها لوقف هذه المذبحة إن شاء الله تعالى".

دور إيران في صقل إمكانات وخبرات الضفة

إنّ هذا التحوّل الاستراتيجي في الضفة، لم يكن ليتّخذ مساره الحالي المتطوّر بهذا الوقت القصير، لولا ترابطت هذه الساحة مع قطاع غزّة على المستوى الفلسطيني، ومع محور المقاومة على المستوى الإقليمي. اذ كان لإيران بصماتها المميّزة في فتح جسور التمويل للضفة وصقل خبرات مجاهديها، عملًا بتوصيات السيد علي الخامنئي بضرورة تسليح الضفة الغربية ودعمها بكافة الأشكال.

هذا ما أوضحه النخالة، في تصريحاته، إذ قال: عندما دعا سماحة القائد لتسليح الضفة الغربية، حقيقة وضع يده على منطقة حساسة جداً فيما يتعلق بالصراع مع العدو، وبناءً على هذا التوجيه رغم ادراكنا أهمية الضفة، لكن هذا التوجيه كان له اثر كبير على المستوى المعنوي والاهتمام من قبل اخواننا المعنيين بهذه الملفات، بالإضافة الى قوى المقاومة نفسها، وتم تعاون الجميع من أجل إحداث تغيير ونقلة نوعية في الحالة الفلسطينية وتم وضع برامج من أجل ذلك، إن كان عبر تهريب الأسلحة أو عبر شراء الاسلحة من الاسرائيلي نفسه، المهم حصل تركيز كبير من أجل أن تنتقل الضفة الغربية من حالة المساكنة والهدوء لحالة المقاومة التي نراها اليوم، وهذا طبعاً كان يتطابق تماماً مع توجيهات سماحة القائد عن امكانية تسليح الضفة الغربية".  

اعتقد رئيس أركان جيش الاحتلال، شاؤول موفاز، الذي قاد بنفسه العدوان الكبير على مخيم جنين عام 2002، أن تلك كانت آخر مواجهة وأنه اجتثّ المقاومة في جنين، الا أنّ هذه المقاومة عادت على يد جيل جديد، ورث من قادة معركة المخيم عزيمتهم، ومستفيدًا من تنوّع مصادر المال والسلاح والخبرات بفعل ارتباطه الوثيق، بالمقاومة في غزّة أولًا، وبمحور المقاومة ثانيًا. وبالتالي فإنّ رئيس الأركان الحالي، هرتسي هاليفي، سيعيش بعد 21 تجربة هزيمة سلفه موفاز، لكن هذه المرّة مع تداعيات استراتيجية ستخلّفها المعركة على الساحة الفلسطينية والساحة الإقليمية في مجمل الصراع مع الكيان المؤقت. فـ "النقطة التي ستركّع العدوّ هي الضفة الغربية"، وفق الامام الخامنئي.  


الكاتب:

مروة ناصر

-ماجستير في الصحافة وعلوم الإعلام.

 




روزنامة المحور