السبت 30 كانون الاول , 2023 09:46

إيران و"طوفان الأقصى": انقلاب الصورة!

العَلمان الفلسطيني والإيراني

إنه انقلاب للصورة بكلّ ما للكلمة من معنى. فقد أماطت معركة "طوفان الأقصى" التاريخية، التي بدأتها حركة حماس فجر السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، ضد الكيان الإسرائيلي، اللثام عن العديد من الأفكار أو المقولات المزيّفة التي سعت وسائل الإعلام الغربية، وبعض العربية، إلى ترسيخها في أذهان شعوب المنطقة طيلة العقود الأخيرة، ومن أبرزها أن قضية فلسطين باتت قضية داخلية ولم تعد قضية مركزية، خصوصاً بعد توقيع اتفاقية أوسلو المشؤومة بين منظمة التحرير الفلسطينية والكيان المحتل، بتاريخ 13/9/1993، وأن "إسرائيل" تريد أن تعيش ب "سلام" مع جيرانها العرب، وأن إيران تستخدم القضية الفلسطينية كأداة ترويجيّة لها في المنطقة، وأنها لا تعادي الكيان الإسرائيلي في العمق، وهي "تستغل" حزب الله اللبناني والفصائل الفلسطينية من أجل تحقيق أهدافها "الطائفية والتوسعيّة"، تماماً مثل حال الكيان الغاصب لفلسطين!

"طوفان الأقصى"... والبصمات الإيرانية

لقد كشفت معركة "طوفان الأقصى"، بأبعادها الاستراتيجية والمباشرة، كما بتفاصيلها المدهشة، وبإقرار علني من الأطراف المعنيّة بها، أنه كانت لإيران بصمات واضحة في تلك المعركة، حتى ولو لم تشارك في رسم خطتها، أو في تحديد توقيت انطلاقها، والذي انفردت به حركة حماس، حسبما أعلن قادة حماس وحزب الله وإيران.

ونعني بالبصمات الواضحة لإيران في معركة "طوفان الأقصى"، الإسهامات المؤثّرة، السياسية والمادية والمعنوية، في دعم وإسناد فصائل المقاومة الفلسطينية، في إطار التزام إيران المبدئي والديني والأخلاقي الصارم بالقضية الفلسطينية منذ تاريخ انتصار الثورة الإسلامية (في العام 1979)، والذي لم تتمكّن حروب وسياسات الغرب (والأنظمة العربية التابعة له) العقابية الإجرامية من تقييده أو حذفه من أجندة إيران السياسية والعملية منذ تأسيس الجمهورية الإسلامية، وإعلانها الالتزام الجديّ بقضية فلسطين وقضايا المسلمين والمستضعفين في العالم.

وقد ترجمت إيران دعمها للمقاومة الفلسطينية، وغيرها من حركات المقاومة والتحرّر في المنطقة، في أطر ومجالات عدة، ومنها الدعم المالي والعسكري والأمني واللوجستي والاجتماعي، وتحت مظلّة سياسية وفكرية متينة، قاعدتها أن قضية فلسطين هي قضية كلّ العرب والمسلمين والأحرار في العالم، وأن تحرير القدس والمسجد الأقصى المبارك هو واجب إسلامي وإنساني وأخلاقي لا يمكن لأحد التهرّب منه، وأن وجود "إسرائيل" السرطاني يهدّد كلّ شعوب المنطقة، وليس الشعب الفلسطيني فقط.

الدعم الإيراني للمقاومة وفق رؤية استراتيجية

إن إقرار قادة ومسؤولي حركة "حماس" (السنيّة)، وبقيّة الحركات والفصائل الفلسطينية، مراراً وتكراراً، بالدور الكبير لإيران (الشيعية) ولحزب الله اللبناني (الشيعي) في دعم وتطوير وتفعيل القدرات المتنوّعة لفصائل المقاومة، ومنها الصواريخ والأنفاق، التي تذوق "إسرائيل" منها الأمرّين منذ سنوات (حيث لا يخفى الدور المركزي للقائد الإيراني الشهيد قاسم سليماني في هذا المجال)، وخاصة خلال معركة "طوفان الأقصى" المستمرة، يؤكّد بشكلٍ لا لُبس فيه أن إيران باتت قاعدة آمنة وفعّالة لكل دول وأطراف محور المقاومة  في المنطقة، في مواجهة الداعم الرئيسي  لكيان الاحتلال، أي الولايات المتحدة الأميركية؛ ومن هنا يجدر بالقوى والحركات والنخب الفكرية والسياسية والثقافية التي تكنّ العداء لإيران، أو هي تختلف معها في قضايا عديدة، فضلاً عن أغلب الأنظمة العربية والإسلامية، أن تعيد النظر في قراءاتها المغلوطة أو المشوّهة حول خلفيات ودوافع الدعم الإيراني غير المحدود للشعب الفلسطيني وفصائله المقاومة، والذي لا يمتّ بأي صلة لما تشيعه وسائل الإعلام ومراكز الفكر الغربية الموجّهة من اللوبيات الصهيونية بالخصوص، وتلك المؤسسات  العربية والإسلامية المدعومة منها، أو المتأثّرة بها.

إنّ دعم إيران للمقاومة الفلسطينية، ولضرورة توحّد كلّ المسلمين حولها، ينطلق من مبادئ وثوابت دينية وسياسية وأخلاقية، وردت أسسها في الدستور الإيراني، وتأكّدت مضامينها في مختلف مراحل الصراع مع "إسرائيل" منذ انخراط إيران في هذا الصراع قبل أكثر من عقود أربعة من الزمن. وفي السياق، يقول مؤسّس الجمهورية الإسلامية، الإمام الخميني (قده)، إن "هدف الدول الكبرى من إيجاد إسرائيل لا يتحدّد باحتلال فلسطين. فهم ـ والعياذ بالله ـ يحاولون عبر هذا المخطّط إيصال البلدان العربية لنفس المصير الذي انتهت إليه فلسطين…". ويرى الإمام أن خطر إسرائيل لا يهدّد العرب فحسب، وإنما خطرها يشمل المنطقة بأسرها.. فالمخطّط المرسوم يقضي بقيام الصهيونية بالسيطرة والاستيلاء على العالم الإسلامي واستعمار أوسع للأراضي والمنابع الغنيّة للبلدان الإسلامية.

فيما يعتبر قائد الثورة الإسلامية الحالي، السيد علي خامنئي، أن "فلسطين هي قضية العالم الإسلامي من ناحيتين: من حيث إنها قطعة من التراب الإسلامي، ولا يوجد أيّ اختلاف بين المذاهب الإسلامية في ذلك؛ ويتّفق الفقهاء كلّهم على واجب الجميع أن يروا في الجهاد والسعي من أجل استعادة الأرض الإسلامية، إذا ما اقتطع أعداء الإسلام قطعة من التراب الإسلامي وفرِضت سيادة أعداء الإسلام عليها، واجباً على عاتقهم..".

والناحية الثانية أن إقامة الدولة اليهودية – أو بالأحرى الصهيونية – في هذه المنطقة من العالم الإسلامي، حصلت بهدف استكباري بعيد المدى. بل إن إقامة هذه الدولة في هذه المنطقة الحسّاسة الواقعة في قلب العالم الإسلامي، وهي تربط القسم الغربي منه، وهو أفريقيا، بالقسم الشرقي منه، وهو الشرق الأوسط وآسيا والشرق، فيظهر بذلك مثلّث بين آسيا وأفريقيا وأوروبا؛ كان الهدف منها أن تستمر سيطرة المستعمرين آنذاك، وعلى رأسهم الحكومة البريطانية، في المدى البعيد، على العالم الإسلامي.

معركة "طوفان الأقصى" تقلب الصورة

خلال معركة "طوفان الأقصى" الأخيرة، صدرت مواقف حاسمة للسيد علي خامنئي، أكّد فيها على دعم إيران المستمر لقوى المقاومة حتى دحْر كيان الاحتلال وإزالته، ومهما تصاعدت المخاطر والتهديدات ضد بلاده بسبب هذا الدعم؛ بموازاة تثبيت القائد الإيراني للدور الجوهري للشعب الفلسطيني في مواجهة ومقاومة الكيان المحتل، وعلى أرض فلسطين تحديداً. وهناك بونٌ شاسعٌ بين دعم إيران، المنطلِق من ثوابت دينية وأخلاقية، للقضية الفلسطينية، والذي بدأ يلقى تجاوباً متزايداً من قِبل الشعب الفلسطيني والشعوب العربية- على عكس الصورة التي كانت راسخة سابقاً حول دوافع ذلك الدعم- في ظل التخلّي العربي الرسمي عن قضية هذا الشعب (بل والتواطؤ ضدّه)، وبين الدعايات الغربية (والإقليمية) الممنهجة حول أهداف وغايات إيرانية معيّنة من وراء هكذا دعم واحتضان؛ مع العلم بأن إيران باتت في طليعة الدول شبه المكتفية ذاتياً، والتي تمتلك إمكانات عظيمة في المجالات الأساسية (الطاقة، الغذاء، الدواء، السلاح، التكنولوجيا،...)؛ وهي لا تحتاج إلى موارد خارجية حيويّة لضمان استمراريتها كدولة، وبما يستلزم سياسات إيرانية انتهازية لتأمين هذه الموارد، حسب المزاعم الغربية. وفي هذا الإطار، فقد رفضت القيادة الإيرانية، طيلة العقود الأخيرة، عروضًا كثيرة مغرية (من قِبل الأميركيين والأوروبيين، وبإقرار منهم) لقاء تخلّيها عن تبنّي قضية فلسطين، والمقاومة عموماً، مثل رفع الحصار عنها بشكل كامل، ودعم ما يسمّى "التمدّد السياسي والمذهبي" لإيران على مستوى المنطقة، ولو على حساب أهم حلفاء أمريكا فيها، كالسعودية ومصر وغيرهما.

فقد أعلن السيد خامنئي أن ما حدث يوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر (عملية طوفان الأقصى) هو "هزيمة عسكرية واستخبارية للكيان الإسرائيلي لا يمكن ترميمها". ووصف ما جرى بأنه "زلزال مدمّر تمكّن من هدْم بعض البنى الرئيسية لحاكمية الكيان الصهيوني"؛ مشيراً إلى أنّ العالم الإسلامي "سيدعم فلسطين؛ لكن الشباب الفلسطيني هو من صنع هذه الملحمة التي ستكون خطوة كبيرة لإنقاذ فلسطين".

ولفت الخامنئي إلى أنّ ما حصل عمل قام به الفلسطينيون. وكلّ من يقول غير ذلك "مخطئ ومستهتر بالشعب الفلسطيني"؛ وهذا ما توافقت حول مضامينه المواقف التي صدرت عن القيادات الفلسطينية المقاومة، قبل وبعد معركة "طوفان الأقصى".

بدوره، قال الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، إن الكيان الصهيوني لم يحقّق أيّ إنجاز حقيقي بعد "طوفان الأقصى"، وهذا إخفاق إستراتيجي.

ولفت إلى أن الولايات المتحدة أرسلت برسائل لمحور المقاومة، وحصلت على جواب عملي وعلني على الأرض؛ وقال: واشنطن تطالبنا بعدم التحرّك بينما تقدّم دعماً واسعاً للكيان الصهيوني؛ وهذا مطلب باطل. وأكّد أن المقاومة في فلسطين والمنطقة مستقلة والقرار بيدها، ولا تتلقّى أوامر من طهران. واستطرد القول: لا قدرة للكيان الصهيوني والدعم الأميركي على اجتثاث المقاومة الفلسطينية**.

بالمقابل، ولأن "الحق ما شهد به الأعداء"، ننقل ما يردّده -بمرارة -رئيس وزراء كيان العدو، بنيامين نتنياهو، بأن “إيران هي الجهة الأخطر على إسرائيل وعلى العالم أجمع”. فيما يصف الدبلوماسي الإسرائيلي المخضرم، البروفيسور إيتمار رابينوفتش، حرب غزة الحالية ب «حرب إيران – إسرائيل الأولى».

ويقول رابينوفتش، الذي عمل مديراً عاماً لوزارة الخارجية وسفيراً لكيانه في واشنطن وترأّس وفد الكيان للمفاوضات مع سوريا، إن «الحدث الذي نعيشه منذ 7 أكتوبر هو حربٌ بين إسرائيل و(حماس) في غزة. لكن هذه الحرب تجري في سياق أوسع، يتشكّل في المقام الأول عن طريق جهود إيرانية لتحدّي إسرائيل في جبهات عدّة».

خلاصة

إذاً، إن رؤية الجمهورية الإسلامية الإيرانية عميقة وشاملة للقضية الفلسطينية، باعتبارها قضية مصيرية ترتبط بالعالم العربي والإسلامي عموماً، حيث أنشأ المستعمرون الغربيون الكيان الإسرائيلي في قلب هذا العالم من أجل تقسيمه وإضعافه والسيطرة على ثرواته ومقدّراته؛ كما بهدف إبعاد "خطر الإسلام" عن العالم الغربي "الحر" بطريقة استباقية، وحتى لا تتكرّر "الحملات الإسلامية" ضدّ الغرب مرّة أخرى. وبالتالي، ليس للجوانب المذهبية والطائفية أو القومية أي صلة بتلك الرؤية الإيرانية الاستراتيجية، بأبعادها الدينية والإنسانية والأخلاقية، والتي يسعى الحلف الغربي -الإسرائيلي الإجرامي جهده من أجل تشويهها، بدفعٍ من بعض الدول والأنظمة العربية والإسلامية، وذلك لاعتبارات وضغوط معروفة.

إن حضور ايران المتنامي  في مواجهة قضايا المنطقة، وفي طليعتها قضية فلسطين، وخصوصاً في مرحلة معركة "طوفان الأقصى" الكبرى وما سيليها، كما يقرّ قادة الكيان الإسرائيلي، يجدر أن يكون حافزاً قوياً لأغلب الأنظمة العربية والإسلامية، والنخب المسيّسة فيها، كي تراجع حساباتها وتُغيّر مواقفها العدائية حيال إيران، والتي تواجه حصاراً اقتصادياً ودبلوماسياً خانقاً منذ عقود، على خلفية تبنّيها، سياسياً وعملياً، للقضية الفلسطينية؛ كما من أجل تحمّل  الدول والشعوب لمسؤولياتها التاريخية حيال هذه القضية؛ وبما يؤدّي لا محالة إلى نهايات مُشرّفة لها، تليق بمكانة وتضحيات الشعب الفلسطيني المظلوم، وشعوب المنطقة التي ابتُليت بالسرطان الصهيوني المميت منذ ما يزيد على قرنٍ من الزمان.


الكاتب:

حسن صعب

كاتب وباحث سياسي




روزنامة المحور