مدخل
يتّفق الخبراء والمراقبون على الجزْم بأن الدعم الأميركي المفتوح للحرب الإسرائيلية الوحشية على قطاع غزة، هو من أعطى كيان الاحتلال القدرات اللازمة للردّ غير المتناسب، وبكلّ المقاييس، على هجوم حركة حماس التاريخي والمُذهِل في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول من العام الماضي؛ وأن "إسرائيل" كانت في مواجهة خطر وجودي حقيقي بسبب هجوم المقاومة الفلسطينية، ومن ورائها محور المقاومة في المنطقة، الذي تقوده إيران.
وعلى الرغم من الأبعاد الاستراتيجية والسياسية الواضحة لهذا الدعم الأميركي للحرب على غزة، فإنه لا يمكن التهوين من تأثير العامل الديني، والذي لا يُخفي بعض المسؤولين الأميركيين والإسرائيليين وجوده وأهميته في كلّ مناسبة، ولو تمّ تغليفه بشعارات الدفاع عن القِيم الروحية التي تجمع الولايات المتحدة و"إسرائيل" في مواجهة ما تُسمّيانه التطرّف أو "الإرهاب الإسلامي"!
لكن هل يمكن تفسير وجود هذا البعد الديني بالهويّة المسيحية للولايات المتحدة وانتماء الكثير من مواطنيها إلى المذهب المسيحي المتطرّف (الإنجيلية الصهيونية)، أم أن المسألة تتعلق بالمصالح العليا للإدارة الأميركية، والتي تستخدم العامل الديني كأداة لحماية هذه المصالح فحسب؟
الدين في خدمة المصالح السياسية
لا أحد يشك في أنّ الدولة العميقة في الولايات المتحدة لا تعمل أو تفكّر من منطلقات دينية بحتة، ولو أنها تستفيد من الدين (المسيحي) في تنفيذ أجنداتها الخارجية، وحتى الداخلية، من أجل تأمين مصالحها الاقتصادية والسياسية والأمنية التي تتنامى وتتوسّع مع مرور الزمن!
وتُعدّ "إسرائيل" إحدى ركائز الاستراتيجية الأميركية الكونيّة، والتي تختلط فيها الدوافع أو الأهداف السياسية بالدوافع الدينية المُلتبسة. وما أُعلِن من مواقف سياسية ب "نكهة" دينية من قِبل مسؤولين أميركيين وإسرائيليين خلال الحرب الأخيرة على قطاع غزة، يؤكّد هذا المعنى، والذي يمكن اختصاره بأن الدولة "الأقوى" في العالم لا تزال تُراهن على دور الكيان الإسرائيلي "المتفوّق" في حماية المصالح الأميركية في المنطقة، ووجوب ردع أعداء الكيان عن التعرّض له أو المساس بتفوّقه، ولو عبر الاستغلال المكشوف للمشاعر الدينية المتأجّجة لدى مسيحيي أميركا المتصهينين ويهود الكيان "المَكْلومين" بعد هجوم "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الفائت.
فبعد أيام من "طوفان الأقصى"، أثار السيناتور الأمريكي، ليندسي غراهام، ضجّة بين روّاد مواقع التواصل الاجتماعي عقب تصريح قال فيه: "نحن في حرب دينية"، داعياً إسرائيل إلى "تسوية الأرض" للدفاع عن نفسها!
تصريح غراهام المُتداول جاء خلال مقابلة أجراها مع قناة "فوكس نيوز" ونشر مَقْطعاً منها في تدوينة على صفحته الرسمية بمنصّة أكس (تويتر سابقاً)، قائلاً: "نحن في حرب دينية هنا. أنا مع إسرائيل؛ قوموا بكلّ ما يتوجّب عليكم القيام به للدفاع عن أنفسكم. قوموا بتسوية المكان"!
في الوقت عينه، قال وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، إن إدارة الكونغرس تعمل للتأكّد من أن احتياجات إسرائيل الدفاعية المتزايدة تُلبّى، موضحاً أنه لم يأتِ لإسرائيل كونه وزيراً لخارجية الولايات المتحدة فقط؛ ولكن بصفته "يهودياً فَرّ جدّه من القتل"!
وفي زيارته التضامنية لإسرائيل بعد عملية "طوفان الأقصى" المُباغتة التي نفّذتها المقاومة الفلسطينية، أضاف بلينكن، أن زيارته تحمل رسالة مفادها، أنهم سيكونون دائماً موجودين إلى جانب الإسرائيليين، وليسوا مضطرّين للدفاع عن أنفسهم بمُفردهم!
وفي السياق، تداول روّاد مواقع التواصل الاجتماعي مقطع فيديو لوزير الخارجية الأمريكي الأسبق، مايك بومبيو، وهو يرقص مع جنود إسرائيليين بالقرب من قطاع غزة، في لقطة أثارت غضباً واسعاً ووُصفت "بالمثيرة للاشمئزاز".
ولم يُخفِ بومبيو يوماً تطلّعاته لتولّي منصب أعلى؛ وغالباً ما أشار إلى دعمه لإسرائيل التي تُعدّ قضية رئيسية لدى القاعدة المسيحية الإنجيلية للحزب الجمهوري (الأميركي).
لكنّ التعبير الأفضل عن هيمنة السياسة على أي أمر آخر لدى صانع القرار الأميركي فيما يخص العلاقة "المميّزة" مع "إسرائيل"، هو موقف الرئيس الأميركي الحالي، جو بايدن، والذي لا يُخفي شَغَفه الشخصي بالصهيونية وبإسرائيل، وهو لا يفتأ يُعيد تصريحًا أطلقه منذ عقود، ويتباهى فيه بصهيونيّته: "لا تحتاج أن تكون يهوديًا حتى تكون صهيونيًا". وهو يُكرّر دائمًا أنه "لو لم تكن هناك إسرائيل، لكان علينا أن نخترع إسرائيل". وقد أعاد تكرار هذه المواقف في خطابه بعد مضي ثلاثة أيام فقط من "طوفان الأقصى"، والذي كان الأكثر تماهيًا مع "إسرائيل"، وتبنّى على نحوٍ مُطلقٍ موقفها.
ومعلومٌ أن الحركة الصهيونية هي حركة سياسية عنصرية، ولديها أهداف استراتيجية مشتركة مع الولايات المتحدة الأميركية؛ وليس الدين بالنسبة لكِليهما سوى غطاء أو دافع لتحقيق أهدافهما الاستعمارية في المنطقة؛ ناهيك عن أن أياً من قادة أو زعماء الحركة الصهيونية العالمية (ووليدتها "إسرائيل")، والإدارات الأميركية المُتعاقبة، يمكن عدّه مُلتزمًا دينياً أو عقائدياً بالمعنى الحرفيّ الكلمة، أو أنه يتّخذ قراراته من منطلقات دينية معيّنة.
تساؤلات منطقية ومشروعة
إنّ للشَغَف الأميركي "المُزْمِن"، أو المَرَضي، بالكيان الإسرائيلي، دوافع سياسية أوّلًا، تشمل المصالح الأميركية في المنطقة (ثروات النفط والغاز وغيرها / الأسواق وطرق النقل البحري / حماية الكيان والأنظمة الموالية /..)؛ وذلك بالاستناد إلى الاعتقادات الراسخة لدى ملايين الأميركيين المتديّنين (الإنجيليون الصهاينة) بأن قيام "إسرائيل" والهجوم الإسلامي الشامل ضدّها سيُعجّلان بظهور المسيح المُخلّص، والذي سيُعيد الدين المسيحي إلى "مجده" الغائب في نهاية الزمان!
بالمقابل، لا تُشير أرقام استطلاع للرأي العام العربي (أجْرتها بعيد معركة طوفان الأقصى المجموعة المستقلة للأبحاثIIACSS وشركاء لها في بعض دول المنطقة) حول الأسباب التي جعلت أميركا والغرب يُساندون "إسرائيل"، إلى هذه الحقيقة بشكل دقيق، حيث لم يُجب سوى 8% تقريباً إن السبب هو للدفاع عن المدنيين الذين "خَطفتهم" "حماس" أو قَتلتْهم يوم 7 أكتوبر. أما الغالبية المطلقة (بحدود 50%)، فقالوا إن سبب دعم الغرب لإسرائيل هو كُرههم للإسلام والمسلمين. وأجاب حوالي 30% أن السبب هو قوّة اللوبي الإسرائيلي؛ بمعنى أن غالبيّة العرب يرون أن دعم الغرب للحرب التي تشنّها "إسرائيل" ضدّ "حماس" هو بمثابة دعم للحرب ضدّهم.
وهذه الأرقام التي تعكس غَلَبة للمشاعر والأفكار الدينية على التوجّهات السياسية، كان يجب أن تدفع بصانعي القرارات في الولايات المتحدة، وربيبتها "إسرائيل"، لإعادة حساباتهم فيما يرتبط باحتمالات تطوّر الصراع في غزة إلى صراع ديني واسع النطاق، لن تبقى الشعوب الغربية بمنأىً عن تداعياته المُدمّرة في المستقبل المنظور أو البعيد.
وهنا تبرز عدّة تساؤلات منطقية حول أسباب استمرار الدعم الأميركي، السياسي والعسكري والمالي، ومن دون قيود تقريباً، لحروب واعتداءات "إسرائيل" المتواصلة على الشعب الفلسطيني وشعوب المنطقة، والتي لن تكون حرب غزة المروعة آخرها بالتأكيد. ومن هذه التساؤلات:
-1تتساءل شعوب المنطقة حول أبعاد العواطف الجَيّاشة التي يُبديها القادة والمسؤولون الأميركيون، على اختلاف انتماءاتهم السياسية، تجاه "إسرائيل"، وهي البعيدة آلاف الكيلومترات عن الولايات المتحدة، والتي لم تستطِع حتى تاريخه فرض وجودها أو "نموذجها الديمقراطي اليهودية الهجين" على محيطها، كما ترغب هي وراعيتها "الديمقراطية"، على الرغم من كلّ الحروب والسياسات العدوانية التي طبّقتها خلال العقود الماضية؛ وليست آخرها الحرب المفتوحة على غزة، والتي جَسّدت ذروة التوحّش الإسرائيلي، الذي نبذه ورفضه العالم كلّه، باستثناء الإدارة الأميركية وبعض الأنظمة الغربية والعربية الموالية لها.
-2استطراداً، فإن البُعد السياسي أو الجيوستراتيجي هو الذي يُفسّر طبيعة أو حقيقة تلك العواطف الأميركية المتدفّقة تجاه "إسرائيل"، مع أنها باتت النظام العنصري والاستعماري الوحيد على مستوى العالم، والنقيض الجوهري للنّظم الديمقراطية أو الإنسانية، حسب التصوّرات الغربية الحديثة.
وعليه، فإن المواقف والتصريحات الأميركية الأخيرة حول الأنموذج الإسرائيلي أو الصهيوني "الرائع"، وأهمية حمايته، حتى بعد قتْل "إسرائيل" لأكثر من واحد وثلاثين ألف فلسطيني، وأغلبهم من النساء والأطفال، وتجويعها لمليوني إنسان - كما أقرّ الرئيس الأميركي (في خطاب حالة الاتحاد، 8/3/2024) ووثّقت التقارير الأممية - لا تعني سوى إمعاناً في تضليل الرأي العام العالمي، ولتكريس خطيئة الغرب الكبرى بحق فلسطين والأمّة، بزرع هذا الكيان السرطاني في جسد المنطقة، من أجل نهْب ثروات ومُقدّرات شعوبها، والتخلّص من أعباء وشرور الوجود اليهودي أو الصهيوني في أوروبا، في الوقت نفسه!
-3استند الأميركيون وحلفاؤهم (أتباعهم) الأوروبيون، في تبرير حرب "إسرائيل" الوحشية على غزة، إلى ما سمّوه حقّها في الدفاع عن نفسها، كدولة ديمقراطية وذات سيادة، ضدّ جماعات "إرهابية وغير قانونية" تريد إزالتها من الوجود، بدعم من نظام إيران الإسلامي "المتطرّف"، ومن جماعات "إرهابية" مدعومة من قِبل هذا النظام في المنطقة!
وهنا تبرز أسئلة عديدة حول دور الغرب في تأسيس الدولة الصهيونية المزعومة، ورفْدها بكلّ أسباب البقاء والاستمرار، وتوفير وسائل التدمير الفتّاكة والحديثة لها، برغم الرفض القاطع لها من قِبل أصحاب الأرض الأصليين، ومن محيطها العربي والإسلامي، كما تقرّ الدول الغربية ووسائل إعلامها واستطلاعات الرأي فيها؛ بل إن الغرب يتمادى مع الوقت في الدفاع عن جرائم وارتكابات الدولة الصهيونية مهما بلغت درجة بشاعتها وتعارضها مع القوانين الدولية والأعراف الإنسانية، التي يدّعي هذا الغرب تمسّكه بها لَيْلَ نهار، من دون إغفال مدى التأثير المرتقب للتغيّرات الحادّة لدى الأوساط الغربية، الشبابية بالخصوص، حيال جرائم "إسرائيل" في غزة، واستمرار احتلالها للأراضي الفلسطينية، والذي يتصادم مع القرارات الدولية ذات الصلة.
وفي السياق، تجدر الإشارة إلى نشأة "إسرائيل" المُلتبسة، واعتراف الأمم المتحدة بها، في العام 1949، والذي كان مشروطاً بعدم تهجير الشعب الفلسطيني من أرضه وعودة اللاجئين، أو إلغاء كيانه السياسي المستقل، في إطار ما سُمّي آنذاك بقرار التقسيم (181). وعليه، يمكن توصيف كلّ السياسات والممارسات الإسرائيلية منذ ذلك الحين بأنها غير مشروعة وغير قانونية، ومن ضمنها مشاريع الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، والهجمات والاعتداءات الوحشية على الفلسطينيين، سواء في الأراضي المحتلة عام 1948، أو الأراضي المحتلة في العام 1967. وهنا ينبغي التوقف مليّاً عند عدم تبنّي الأمم المتحدة حتى الآن لتعريف موحّد حول الإرهاب - والتفريق بينه وبين مقاومة الاحتلال - والآليات والشروط والظروف الضرورية لمكافحته بشكل جماعي، ما يُسقط أيّ مشروعية قانونية أو إنسانية تدّعيها "إسرائيل" أو الدول الداعمة لها تحت عنوان مُكافحة "الإرهاب الإسلامي"، سواء في فلسطين المحتلة أو خارجها.
بالمقابل، ليس من الإنصاف تصنيف العمليات العسكرية أو الفعاليات المدنيّة الفلسطينية الرافضة للاحتلال الإسرائيلي كأعمال إرهابية، كما تزعم الإدارة الأميركية وحلفاؤها، ومن ضمنها بالطبع عملية "طوفان الأقصى" التي نفّذتها "حماس" وفصائل المقاومة الفلسطينية بتاريخ 7/10/2023، ضدّ مستوطنات غلاف قطاع غزة. بل يمكن التأكيد بأن هجوم الجيش الإسرائيلي المضاد لم يكن هو نفسه مشروعاً، لأنه لم يستهدف دولة، بل شعباً يرزح تحت الاحتلال والحصار؛ فضلاً عن تداعيات هذا الهجوم الكارثيّة، والتي تجاوزت القوانين الدولية والقِيم الإنسانية، حيث داست "إسرائيل" عليها مراراً، وكان آخرها توصيات محكمة العدل الدولية بخصوص دعوى ارتكاب "إسرائيل" لجرائم إبادة جماعية بحقّ الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، كانت دولة جنوب أفريقيا قد رفعتها ضدّه.
خلاصة
في الخلاصة، لا يمكن عدّ المواقف الأميركية الممجوجة حيال "إسرائيل" وممارساتها الوحشية في قطاع غزة بأنها تنسجم أو تتوافق مع القانون الدولي والإنساني؛ بل هي تتناقض معه؛ وهي مواقف سياسية تلتمس القِيم الدينية المسيحية حيناً، والقانون الدولي والإنساني أحياناً أخرى، كغطاء لحماية "إسرائيل" فقط. لكنّ الولايات المتحدة لن تُفلح في أي وقت في فرض أداتها التوسعية والعنصرية على الشعب الفلسطيني وشعوب المنطقة، مهما بلغت درجات مَكْر ودهاء الإدارات الأميركية المتعاقبة، وساديّة اللوبيات العسكرية والاقتصادية والمالية المتنفّذة فيها.
الكاتب: حسن صعب