ليس بعيداً عن السلوك النمطي للعواصم الأوروبية في جولات العدوان السابقة على قطاع غزة؛ سارعت هذه العواصم، كما هو متوقّع، إلى إدانة هجوم المقاومة الفلسطينية على أهداف للاحتلال الإسرائيلي يوم 7/10/2023 بصيغ مغلّظة، وجرى تصوير الحدث بصفة منحازة بوضوح لرواية الاحتلال الإسرائيلي، مع استبعاد خلفيّاته وسياقاته، وإغفال وجهته العسكرية التي استهدفت قواعد الاحتلال وثكناته أساساً. واحتاج عدد منها الكثير من الوقت ليعيد النظر في مواقفه، ليجعلها أكثر اتزاناً.
اتجاهات المواقف الأوروبية:
وعموماً يُلاحظ أنّ المواقف الأوروبية خلال حرب الإبادة افترقت على اتجاهات ثلاثة على الأقل، مع تبايُن نسبي في المواقف ضمن كلّ اتجاه أيضاً:
- اتجاه تبنّى مواقف انحياز جارفة إلى الجانب الإسرائيلي، وظلّ متمسكاً بهذا الموقف تقريباً، وقد تجلّى هذا بوضوح لدى ألمانيا والنمسا والمجر وتشيكيا ودول أخرى.
- اتجاه أظهر نقداً متزايداً لحرب الإبادة، واتخذ مواقف في الاتجاه الإيجابي. وقد تجلّى ذلك في إيرلندا وإسبانيا وبلجيكا ومالطا والنرويج وسلوفينيا.
- اتجاه ثالث تجنّب النقد الواضح دون أن يتصدّر مشهد الانحياز، أو غلب عليه التأرجح في بعض المواقف، كما في حالة فرنسا التي عدّلت موقفها نسبياً في الشهر الثاني من الحرب.
اتّضحت هذه الاتجاهات في الموقف من وقف إطلاق النار خلال شهور الحرب الأولى، وفي السلوك التصويتي في الهيئات الدولية، وفي اتخاذ إجراءات عقابية ضدّ السلطة الفلسطينية ووكالة الأونروا، وفي الموقف من فرض عقوبات على المستوطنين أيضاً.
الموقف من حلّ الدولتين:
مثّل الاكتفاء بإظهار التمسّك بـ"حلّ الدولتين" والالتزام بتقديم المساعدات وادِّعاء الحرص على الأوضاع الإنسانية للشعب الفلسطيني في قطاع غزة تغليفاً نمطياً للمواقف المنحازة بشكل جارف للاحتلال وحرب الإبادة، بالإضافة إلى توجيه انتقادات إلى "عُنف المستوطنين" الإسرائيليين في الضفة الغربية والتلويح باتخاذ إجراءات عقابية بحقّ بعضهم، لكن مع إعفاء جيش الاحتلال من أيّ مسؤولية وإبقاء الانتقادات بعيداً عن مسرح حرب الإبادة في قطاع غزة. أمّا الاتجاه الناقد للاحتلال فعبّر عن ذاته بالسلوك التصويتي المبكِّر لصالح وقف إطلاق النار في الهيئات الدولية، وتقديم مبادرات في هيئات الاتحاد الأوروبي تدعم هذا التوجّه، ثمّ في الاعترافات بدولة فلسطين التي جاءت بشكل متزامن تقريباً من مدريد ودبلن وأوسلو وليوبليانا، وضغطت على مواقف الدول الأوروبية الأخرى التي تُحجِم عن اتخاذ خطوة مماثلة على الرغم من إعلانها النمطي بالالتزام بـ"حلّ الدولتين". وما زالت عواصم النفوذ الأوروبي الأبرز، برلين وباريس ولندن وروما، تتحاشى اتخاذ مواقف واضحة في الضغط على الاحتلال أو الاعتراف بدولة فلسطين.
السعي لمنع اتّساع نطاق الحرب:
حرصت عواصم القرار الأوروبي منذ بدء الحرب على منع اتِّساع نطاق المواجهة خارج قطاع غزة، ويمثِّل طول أمد الحرب عاملاً ضاغطاً عليها في هذا الاتجاه، خصوصاً مع احتمالات اشتعال الجبهة اللبنانية الملتهبة إلى حرب مفتوحة، واستمرار التوتّر والهجمات قرب السواحل اليمنية وفي منطقة البحر الأحمر.
خلاصة:
حتى مع تراكم مواقف أوروبية ناقدة للاحتلال الإسرائيلي وحرب الإبادة الوحشية؛ فإنّ الاتجاه الأوروبي المتنفِّذ ما زال يتجنّب توجيه لوْم جادّ إلى الجانب الإسرائيلي بالإضافة إلى اتخاذ إجراءات عقابية ضدّه، علاوة على أنّه يراعي مواقف الحليف الأمريكي في هذا الشأن ويحاول الانسجام معها بوضوح. غير أن "إسرائيل" تتحوّل بشكل متزايد إلى عبء على الكاهل الأوروبي، بينما يسير الاتجاه العام، وإن ببطء وتردد نحو مزيد من الإقرار بعدم إمكانية بقاء دولة الاحتلال فوق القانون، وعدم إمكانية الاستمرار في تجاهل حقوق الشعب الفلسطيني وضرورة تلبية ولو بعضها، مع تراجع الرهانات على كسر شوكة المقاومة، والتفاف الحالة الشعبية الفلسطينية حول خيار المقاومة، وفشل مسار أوسلو والتسوية السلمية.
المصدر: مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات
الكاتب: أ.حسام شاكر