الخميس 04 تموز , 2024 01:42

مركزية القوة في إدارة التفاوض السياسي الأمريكي

ورقة علمية: مركزية القوة في إدارة التفاوض السياسي الأمريكي

لكل منظومة قيمية في أي مجتمع من المجتمعات سُلَّمٌ قيمي فيه تراتبية للقيم العليا والقيم الوسطى والقيم التابعة، وتتحكم القيم العليا في السلوك العام عبر الوعي العقلي أو تستبطنها الروح العامة بالمنظور الفرويدي.

نزعم في هذه الدراسة أن القوة (بشقيها الخشن والناعم) والبراجماتية (الفكرة صحيحة بمقدار النفع المترتب عليها) هما سنام منظومة القيم الأمريكية، وهو ما يستوجب معه إدراك أن المفاوض أو السياسي الأمريكي يتصرف مع الآخرين وهو مسلح، في وعيه ولا وعيه، بهاتين القيمتين، وهو يفهم القيم الأخرى ويخضعها لتأويلات تجعلها متسقة مع قيمه العليا، وهو الأمر الذي يغيبه المفاوض العربي الرسمي عند التفاوض مع الأمريكيين، ونموذجه المعاصر جولات التفاوض الحالية حول تداعيات طوفان الأقصى. (يمكنكم تحميل الدراسة المرفقة أسفل المقال أدناه بشكل كامل، وهو صادر عن مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات)

العنف البنيوي

تزداد مركزية القوة وضوحاً في السلوك السياسي الأمريكي عند مقارنة الولايات المتحدة ببقية دول العالم في مجال استخدام القوة الاقتصادية ضدّ الدول الأخرى من خلال الحصار الاقتصادي، فخلال الفترة 1914-2000، فرضت دول العالم ضدّ بعضها حصاراً اقتصادياً بلغ 204 مرات، كان نصيب الولايات المتحدة منها هو 140 مرة، أي ما يعادل 68.6% من مجموع حالات الحصار لدول العالم كلها، وهي نسبة مقاربة لنسبة العنف العضوي الأمريكي.

وما يعزز النزعة التدخلية ويعزز فكرة القوة في المنظومة القيمية للمجتمع هو مستوى النجاح في التدخل العسكري، وطبقاً لدراسة أمريكية متخصصة تناولت نتائج 145 تدخلاً عسكرياً أمريكياً بين الفترة 1898 و2016، تبين أن الولايات المتحدة حقَّقت الأهداف المسطرة للتدخل بشكل كبير في 63% منها، بينما فشلت بشكل واضح في 8%، وغلب على 29% منها التحقيق النسبي للأهداف، وما يؤكد العلاقة بين النجاح في التدخل وزيادة مكانة القوة هو أن الدراسة ذاتها تؤكد أن النجاح دفع الولايات المتحدة لزيادة طموحاتها التدخلية "العضوية والبنيوية" عدداً وأهدافاً.

السلوك السياسي الأمريكي

تمثل البنية الداخلية والمنظومات القيمية والنشوء التاريخي مصدراً لا جدال في دورها في تحديد السلوك السياسي الخارجي، فكيف انعكست بنية مجتمع استيطاني نشأ بالعنف بل وتبناه على السلوك السياسي في الولايات المتحدة؟ ولا شكّ أن الشعار الذي طرحه الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب Donald Trump "أمريكا أولاً America First" ليست إلا انعكاساً لزهو القوة الكامن في العقل الباطن الجمعي للمجتمع الأمريكي، ولكي ندلل على ذلك نتوقف عند المؤشرات التالية في السلوك السياسي الخارجي الأمريكي:

العنف العضوي: التدخل العسكري الخارجي

لا بدّ من التنبه إلى مسألة يحاول الإعلام الأمريكي تمويهها، وهي القضية المتعلقة بالعنف الذي هو في نهاية الأمر تعبير عن القوة، فالأدبيات الرأسمالية بشكل عام والأمريكية بشكل خاص تقتصر مفهوم العنف على "العنف العضوي Somatic violence"، أي الإيذاء الجسدي خصوصاً في الحروب، بينما يجري تغييب "العنف البنيوي Structural Violence"، أي أن تضع الأفراد أو الجماعات في ظروف سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية تقودهم باتجاه الجوع والمرض والفقر والجهل والموت…إلخ.

فالاستيطان الصهيوني مثلاً هو عنف بنيوي، ونهب الشركات متعددة الجنسية للثروات في العالم النامي هو عنف بنيوي، والحصار أو العقوبات الاقتصادية على بعض المجتمعات يندرج في إطار العنف البنيوي، وإجراء التجارب النووية والتلويث للمناخ طمعاً في زيادة الإنتاج الصناعي هو أيضاً شكل من أشكال العنف البنيوي. ويكفي أن نشير إلى أن إحدى الدراسات وجدت أن سياسات الحصار الاقتصادي الأمريكية تقود إلى انخفاض في معدلات الأعمار وزيادة الأمراض، بل إن إحدى التقديرات أشارت إلى أن الوفيات بسبب الحصار الاقتصادي يفوق بنسبة أربعة أضعاف قتلى الحروب الأهلية، فإذا علمنا أن الولايات المتحدة فرضت الحصار خلال القرن الماضي نحو 110 مرات على مختلف الدول، ندرك مفهوم العنف البنيوي في العقل السياسي الأمريكي وتأثير ثقافة القوة.

الخلاصة

يعد مفهوم القوة في المنظومة القيمية الأمريكية، مفهوم يُسهم في صياغة المنظومة المعرفية والقيمية للمجتمع، وعلى المفاوض العربي أو الفلسطيني (سواء كان التفاوض مباشراً أم غير مباشر) أن يدرك أن المفاوض الأمريكي لن يستجيب إلى أي مطلب إلا بمقدار القوة التي تساند ذلك المطلب من ناحية، وإلى غواية الفائدة من هذا المطلب من ناحية ثانية، وهو ما يستوجب مراعاة نتائج هذه الدراسة على النحو التالي:

- إن استخدام شعارات الديموقراطية وحقوق الإنسان وغيرها من مفاهيم الدعاية السياسية الأمريكية لا تشكل في منظومة القيم الأمريكية وزناً مهماً عند اتخاذ القرار السياسي، بل هي أداة لتمويه وتجميل دوافع استخدام القوة، كما أن توظيف مفاهيم الديموقراطية وحقوق الإنسان تندرج ضمن البراجماتية لإضفاء شرعية على استخدام العنف.

- إن طريقة نشوء المجتمع الأمريكي عبر مغامرة المستكشفين وتحدي المحيط الأطلسي بالقوة العضلية للبحارة، ثم السيطرة على المجتمع المحلي بالقوة النارية من ناحية أخرى، ثم جلب أعداد كبيرة من السود الأفارقة بالقوة المسلحة لتوظيفهم في العمل من ناحية ثالثة، شكَّل منهج التفكير وأعلى من مكانة القوة وجعلها في أعلى سُلَّم القيم للمجتمع الأمريكي.

- انعكست فكرة القوة في السلوك الأمريكي في الأدب الأمريكي والسينما والرياضة بل وأنماط المعمار والتصميم، وتشكل الوجدان الأمريكي حول هذه الفكرة.

- تحتل الولايات المتحدة وبفارق كبير المرتبة الأولى في عدد التدخلات العسكرية، بأشكالها ومستوياتها المختلفة، بين كل دول العالم، وهو نتيجة في أحد جوانبه لسيطرة فكرة القوة في العقل الأمريكي والتمسك بالمنظور الواقعي بمدرستيه القديمة والجديدة.

- إن أي تفاوض سياسي مع الولايات المتحدة يغفل أولوية توظيف القوة (الخشنة والناعمة) مهما كان المتوفر من هذه القوة سينتهي إلى الفشل الذريع.

- إن نسبة استخدام العنف العضوي والعنف البنيوي في السياسة الأمريكية متقاربة.

التوصيات

- على المفاوض العربي عند تعامله مع المفاوض الأمريكي أن يدرك مقدماً أن التفاوض انعكاس دقيق لميدان الصراع، فالخاسر في الميدان هو الخاسر على طاولة المفاوضات، وتغيير النتائج على طاولة المفاوضات يحتاج لتغيير في الميدان.

- على المفاوض العربي ألا يستهين بأي مقوم من مقومات القوة التي لديه، سواء أكانت مقومات اقتصادية أم أهمية جيواستراتيجية أم بشرية أم سوق أم قوى عسكرية…إلخ، وأن يقيم تفاوضه على أساس فن توظيف مقومات القوة (بالمنح أو المنع)، وليس المحاججة العقلية والنظرية كما لو أن الأمر حوار أكاديمي.


المصدر: مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات

الكاتب: أ. د. وليد عبد الحي




روزنامة المحور