مر قرابة عام كامل منذ إعلان وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن في 19 ديسمبر 2023 إنشاء تحالف "حارس الإزدهار" لكسر الحصار البحري الذي فرضه اليمن في البحر الأحمر على السفن الإسرائيلية أو السفن الذاهبة لموانئ فلسطين المحتلة للضغط على إسرائيل لإيقاف جرائم الإبادة الجماعية في غزة، وبرغم مدة المهام الطويلة للتحالف وخوضه معارك بحرية مع القوات المسلحة اليمنية وصفها المسؤولون الأمريكيون بأنها الأعنف منذ الحرب العالمية الثانية، إلا أنه فشل في تحقيق أهدافه، بحيث أن الحصار ما زال مستمراً حتى اللحظة بل إنه توسع عبر مراحل متصاعدة ليشمل مسرح عمليات يبدأ من شمال البحر الأحمر مروراً بمضيق باب المندب وخليج عدن والبحر العربي وينتهي في شمال المحيط الهندي.
ومع فشل تحالف "حارس الإزدهار" واتساع الأضرار والمخاطر على أمريكا وإسرائيل سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، اتجهت الولايات المتحدة الأمريكية ومعها إسرائيل بصورة أكبر للبحث عن طرق وحلول تكتيكية واستراتيجية لمواجهة التهديد اليمني، وكان من تلك الاتجاهات تعزيز حضورهما في دول القرن الأفريقي، وهذا هو محور تقريرنا الذي سنحاول أن نرصد فيه التحركات الأمريكية والإسرائيلية في القرن الأفريقي وعلى وجه الخصوص في الصومال:
"أرض الصومال" في عين الاهتمام
إن طموح إسرائيل في بناء قاعدة عسكرية مطلة على سواحل خليج عدن سيكون بمثابة وضع حاملة طائرات ثابتة تقوم بمهام تجسسية واستخباراتية وتنفيذ هجمات عسكرية وقت الحاجة ضد صنعاء، بعد أن أصبحت قطعها العسكرية البحرية محظورة من العبور في منطقة جنوب البحر الأحمر وخليج عدن، ومنذ بداية العمليات للقوات المسلحة اليمنية لم يتم رصد أي قطعة عسكرية بحرية لإسرائيل عبرت في هذه المنطقة خوفاً من استهدافها من قبل القوات المسلحة اليمنية.
خلال الأشهر الماضية نشرت وسائل الإعلام الإسرائيلية الكثير من المقالات والتحليلات لكتاب وباحثين إسرائيليين يلفتون فيها نظر حكومتهم لإنشاء قاعدة عسكرية في إقليم "أرض الصومال" _ الذي أعلن انفصاله عن الصومال عام1991 ولم تعترف به أي دولة حتى الآن - نظراً لموقعه الجيوسياسي المهم المطل على خليج عدن بساحل طوله 460 ميلاً، قرب مدخل مضيق باب المندب.
وكان آخر ما نشره الإعلام الإسرائيلي في هذا الشأن تحليل للكاتب الإسرائيلي نادان فيلدمان، نشره موقع "هآرتس" في 27 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، حيث قال:"أدركت إسرائيل أنها لن تكون قادرة على إرسال طائراتها المقاتلة في غارات طويلة ومكلفة على اليمن في كل مرة تنفجر فيها طائرة حوثية بدون طيار بقيمة 20 ألف دولار داخل البلاد - خاصة وأن الحوثيين يُعتقد أنهم يمتلكون أحد أكبر مخزونات الطائرات بدون طيار في العالم. لذلك، كان على إسرائيل البحث عن بدائل أكثر كفاءة".
صحيفة "معاريف" الإسرائيلية أيضاً نشرت تقريراً حول هذا الموضوع قالت فيه بأن: "الإمارات العربية المتحدة تتوسط بين إسرائيل وأرض الصومال فيما يتعلق بإنشاء قاعدة العسكرية، ووافقت حتى على تمويلها، وفي المقابل، قُدمت وعود بأن إسرائيل ستعترف بأرض الصومال وستستثمر في المنطقة".
ما ينشره الإعلام الإسرائيلي ليس بعيداً عن الواقع بل متطابق مع ما يحدث، وهناك الكثير من الشواهد والمؤشرات التي تدل وجود تحرك عملي لبناء قواعد عسكرية بالتعاون مع الإمارات التي تسعى هي الأخرى بالتنسيق مع الولايات المتحدة الأمريكية إلى بسط نفوذها في تلك المنطقة، وقد استطاعت خلال السنوات الماضية أن تسيطر على الشريط الساحلي اليمني من ميناء المخا وحتى سواحل حضرموت بما في ذلك جزيرة ميون التي تتوسط مضيق باب المندب الاستراتيجي وكذلك أرخبيل سقطرى في البحر العربي.
في نوفمبر 2023 أي بعد إعلان صنعاء حظر الملاحة الإسرائيلية عبر مضيق باب المندب، رُصد نشاط مكثف في إقليم أرض الصومال لإنشاء وترميم قواعد عسكرية وبتنفيذ مباشر من الإمارات العربية المتحدة، وهذا النشاط لم يكن موجوداً بهذا الشكل قبل دخول صنعاء في معركة طوفان الأقصى، وهذا ما أكدته منصة إيكاد في تحقيق نشرته في 13 نوفمبر 2023، حيث قالت: "بعد اندلاع الحرب في غزة ودخول "الحوثيين" على خط الصراع في البحر الأحمر، لاحظنا تطورات عسكرية في قاعدتين تسيطر عليهما الإمارات في إقليم "أرض الصومال" على خليج عدن وهما بوصاصو وبربرة".
وأضافت المنصة في تحقيقها بأن: "عمليات التطوير تزامنت مع جسر جوي تقوده طائرات شحن عسكرية كانت تنطلق من الإمارات إلى تلك القاعدتين، وهذه القاعدتان تقعان تحت النفوذ الإماراتي، حيث تدير أبو ظبي قاعدة بربرة منذ عام 2016، وقاعدة بوصاصو منذ عام 2017، بموجب عقود وقعتها شركة "موانئ دبي العالمية" لتطوير وإدارة موانئ القاعدتين مع حكومة إقليم "أرض الصومال".
وأشارت منصة إيكاد أنه من خلال صور الأقمار الصناعية لوحظ بأن النشاط بدأ منذ مطلع نوفمبر 2023، مبينةً أن "معظم التطورات في القاعدتين جاءت بعد 7 أكتوبر، وما بعد إطلاق "الحوثيين" تهديداتهم لإسرائيل ثم مهاجمة السفن في البحر الأحمر".
إن التحركات الإسرائيلية في إقليم أرض الصومال ليست بمعزل عن الولايات المتحدة والمملكة المتحدة التي تطمح لتعزيز نفوذها في الإقليم خلال السنوات القادمة، وقد كشف وزير الدفاع البريطاني السابق جافين ويليامسون في مقابلة مع صحيفة الإندبندنت البريطانية في 20 نوفمبر المنصرم: "إن الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب يعتزم الاعتراف بأرض الصومال، مرجحاً أن تحذو الحكومة البريطانية حذوه".
وأوضح ويليامسون إنه: "أجرى محادثات مع فريق ترامب بشأن الاعتراف بأرض الصومال، التي تحتل موقعاً استراتيجياً مهماً على البحر الأحمر. مضيفاً أنه واثق من أن ترامب سيتناول هذه القضية بمجرد توليه منصبه في يناير/كانون الثاني المقبل".
بدورها، قالت صحيفة "معاريف" الإسرائيلية إنه: "مع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في يناير المقبل، قد تصبح أرض الصومال الدولة المستقلة الجديدة في العالم، حيث تحظى بدعم متزايد من كبار الحزب الجمهوري، ومعاهد البحوث المحافظة في واشنطن، ومستشاري الشؤون الخارجية للرئيس المنتخب".
وفي الواقع، يبدو أن الاعتراف الأمريكي سيكون بمثابة مكافأة للنظام السياسي في هذا الإقليم لفتحه قنوات تواصل مع إسرائيل والولايات المتحدة واستعداده لبناء قواعد عسكرية، وبالعودة إلى التحقيق الذي نشرته منصة إيكاد فقد ذكرت نقلاً عن موقع "العين الإخبارية" التابع للحكومة الإماراتية، بأن "القاعدة العسكرية الإماراتية في إقليم أرض الصومال تتضمن جنوداً أمريكيين ما يعني أن توسيع القاعدة تم بعلم وبالتنسيق مع القيادة العسكرية الأمريكية في الشرق الأوسط".
وخلال الأشهر الماضية نشر الإعلام الأمريكي والغربي بشكل مكثّف أخبار تتهم صنعاء بنسج علاقات مع حركة الشباب الصومالية (المصنفة في قائمة الإرهاب) دون أن تعطي دليلاً واضحاً على صحة هذه العلاقة، بما يعني أن واشنطن تريد من نشرها لهذه الأخبار شرعنة تواجدها في الصومال وخليج عدن، وكذلك لتأليب المجتمع الدولي ضد صنعاء.
إن الثمار التي ستجنيها الولايات المتحدة من أرض الصومال مقابل الاعتراف بها متعددة ومهمة، ولكن صحيفة "معاريف" الإسرائيلية حصرتها في: "الإتاحة للمخابرات الأمريكية إقامة نظام عملياتي طويل الأمد لرصد حركة الأسلحة في المنطقة المضطربة، وتعقب نشاط الصين، التي تمتلك بالفعل قاعدة عسكرية دائمة في جيبوتي المجاورة، بالإضافة إلى ذلك، سيسمح هذا التحرك للولايات المتحدة بتحسين مراقبة نشاط الحوثيين في اليمن".
إن الاهتمام اليوم والتركيز على أرض الصومال لا يقتصر على الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، بل يمتد ليشمل الكثير من الدول التي تطمع بالموقع الجغرافي الهام للإقليم، إلا أن التركيز والتحرك الفعلي يقتصر اليوم على (إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية والإمارات وأثيوبيا) وهذه الدول الأربع تعمل بتنسيق مشترك بما يخدمها في تحقيق أهدافها التي لا تتعارض بقدر ما تتكامل.
إذ تريد أثيوبيا التي تتمتع بعلاقات جيدة مع الولايات المتحدة والإمارات وإسرائيل كسر قيود الجغرافيا التي حبستها خلال العقود الماضية والوصول إلى منفذ بحري عن طريق إقليم أرض الصومال، وفي هذا الإطار فقد وقعت أثيوبيا في بداية العام الجاري اتفاقاً مع أرض الصومال يفضي إلى استخدام 19% من ميناء بربرة البحري لأغراض تجارية لمدة 50 عاماً، بجانب 20 كلم2 حول الميناء، والسماح لها بنشر قطع عسكرية قريبة من الميناء، قوبل هذا الاتفاق برفض شديد من الحكومة الصومالية المعترف بها دولياً ومعها مصر والدول العربية، وأدى إلى توتر خطير كاد أن يفجّر الحرب بين أديس أبابا ومقديشو، وأرسلت مصر مساعدات عسكرية وجنود كدعم للصومال لمواجهة أثيوبيا، لأن مصر تعتبر وصول أثيوبيا إلى خليج عدن تهديداً خطيراً لأمنها القومي خصوصاً وأنه يتزامن مع استمرار الأزمة بين القاهرة وأديس أبابا على خلفية أزمة سد النهضة.
ولكسب رضا الولايات المتحدة وإسرائيل لتمرير الاتفاق بين أثيوبيا وأرض الصومال، خرج رئيس أرض الصومال السابق موسى بيهي عبدي (انتهت ولايته في نوفمبر الماضي) بتصريح مثير نشرته صحيفة فايننشال تايمز في مايو الماضي، حيث قال: "إن الاتفاق مع إثيوبيا يمكن أن يدعم الجهود الدولية لتأمين حرية الملاحة في خليج عدن والبحر الأحمر من هجمات الحوثيين، حيث ستقوم إثيوبيا ببناء ميناء وقاعدة عسكرية بحرية في ميناء بربرة، ونشر أسطول تجاري وعسكري من شأنه أن يساعد في الدفاع ضد التهديدات البحرية".
كما أن الموقف الإسرائيلي لم يعارض الصفقة الاثيوبية مع أرض الصومال، وهو ما اتضح من خلال تصريح سفير إثيوبيا لدى إسرائيل في يناير 2024، فقد أوضح أن المسؤولين الإسرائيليين أظهروا ردة فعل إيجابية لتطلع إثيوبيا للوصول المباشر إلى البحر الأحمر وخليج عدن، وأشار السفير الإثيوبي لدى إسرائيل أن الحكومة الإسرائيلية تتوقع حصول إثيوبيا على قاعدة عسكرية كخطوة جيدة لتحقيق الاستقرار في المنطقة المضطربة.
وبالتالي فإنه كان لا بد من نزع فتيل التوتر وتمرير المشروع بأي صيغة، وهذا ما حدث بالفعل في يوم 12 من الشهر الجاري، حيث ظهر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في مؤتمر صحفي قال فيه: "إن الصومال وإثيوبيا اتفقا على إعلان مشترك لحل خلافاتهما، وذلك بعد محادثات أجراها في أنقرة مع الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود ورئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد".
وجاء في إعلان أنقرة أن الجانبين الصومالي والإثيوبي "قررا وبتسهيلات من تركيا بدء المفاوضات الفنية في موعد أقصاه نهاية فبراير/شباط 2025 والتوصل إلى نتيجة خلال 4 أشهر"، مضيفاً أن "الطرفين أقرا بالفوائد المحتملة التي يمكن تحقيقها من وصول إثيوبيا الآمن إلى البحر، مع احترام سلامة أراضي الصومال".
إن قبول حكومة الصومال المعترف بها دولياً للاتفاق الذي رعته أنقرة بعد رفضها سابقاً، يؤكد بأن تركيا بإيعاز من الولايات المتحدة ضغطت على الحكومة الصومالية للقبول بهذا الاتفاق، باعتبار أن تركيا هي الداعم الأكبر للحكومة الصومالية حالياً، ولم يتم نشر بنود الاتفاقية لنعرف أكثر الدوافع والأسباب التي جعلت الصومال تقبل بالاتفاقية.
إن الضغوط والإغراءات للحكومة الصومالية للقبول بالاتفاقية لم تكن من جانب أنقرة فقط، بل إن واشنطن عملت على ذلك بشكل أكبر، وما يقودنا لذلك هي زيارة مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، ويليام بيرنز، إلى مقديشو، بداية نوفمبر الماضي، والتقائه بكبار المسؤولين الصوماليين بما في ذلك الرئيس حسن شيخ محمود ومدير وكالة المخابرات والأمن الوطني الصومالية، عبد الله سنبلوشي، وبحسب الإعلام الرسمي الصومالي فقد تناولت المباحثات خلال الزيارة عدة محاور رئيسية أبرزها "تعزيز التعاون الاستخباراتي، مكافحة الإرهاب، ومناقشة التوترات المستمرة في منطقة القرن الإفريقي".
الخلاصة
إن التحركات الإسرائيلية والأمريكية في القرن الأفريقي تهدف إلى السيطرة على تلك المنطقة ومحاولة لتطويق اليمن بحزام من القواعد العسكرية من الجهتين الجنوبية والغربية، وبرغم حاجة الولايات المتحدة وإسرائيل اليوم إلى قواعد قريبة من اليمن لشن هجمات ضد صنعاء، إلا أنها لم تستخدم قواعدها في إريتريا وجيبوتي والصومال حتى اللحظة، وذلك لاعتبارين أساسيين هما: رفض دول القرن الأفريقي ضرب اليمن من القواعد الأمريكية والإسرائيلية المتواجدة فيها، وثانياً أن قصر المسافة بين اليمن وهذه الدول سيجعل هذه القواعد عرضةً للاستهداف المتواصل، لذا فإن وجود القواعد العسكرية في هذه الدول يأتي لأغراض تجسسية واستخباراتية لجمع المعلومات وتبادلها ولرصد حركة الملاحة في أحد أهم الممرات الملاحية في العالم، ولاستخدامها لتنفيذ الهجمات في الحالات المناسبة والضرورية.
الكاتب: رضوان العمري