طيلة سنوات لُجمت إسرائيل عن تنفيذ سياسة الاغتيالات على الأراضي اللبنانية، ليس لعدم رغبتها في ذلك أو لعدم قدرتها العسكرية بل بفعل قواعد اشتباك فرضها حزب الله. هذه الحقيقة رسمت نهج التعامل الإسرائيلي مع لبنان لأكثر من عقد من الزمن. ولأن ما جرى في 7 أكتوبر والذي صُنّف من بين "الأعمال الأكثر جرأة" في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، كان أعظم من أن يتم حصره ضمن قوالب أنشأت ضمن سياقات عسكرية واستراتيجية سابقة، كانت عمليات الاغتيال الأخيرة التي طالت قيادات في حزب الله، كملاذٍ إسرائيلي للتغطية على الفشل المتراكم منذ أكثر من 8 أشهر. وبينما يرى بنيامين نتنياهو بذلك "دعاية جيدة" لإقناع الجمهور بضرورة استمرار الحرب، تُجمع شريحةٌ واسعة من المسؤولين الإسرائيليين بأن عمليات الاغتيال قد تكون نجاحاً تكتيكيّاً لكنها ستؤسس لفشل استراتيجي "اذ ان اغتيال الأمين العام للحزب السيد عباس الموسوي، ساهم بصعود قائد شاب هو السيد حسن نصرالله".
رغم حظر القانون الدولي الانساني لسياسة الاغتيال، شرّع كيان الاحتلال هذه السياسة عام 2002 في سابقة هي الأولى على مستوى العالم، مع وضع عدد من الضوابط لم يلتزم بها، واشترط موافقة رئيس الوزراء. وهذا ما يترك هامشاً واسعاً لتوظيف عمليات الاغتيال المُفترّضة في خدمة المصلحة الشخصية للأخير، دون أن تُحقق بالضرورة مصلحة الكيان.
عملياً، تكشف مقاربة عمليات الاغتيال الأخيرة التي جرت في لبنان خلال الفترة الماضية، أنها لم تحقق الأهداف التي نُفذت لأجلها. وفي تفنيد لبعض الحقائق التي يرغب نتنياهو في تغاضيها رغبة في إطالة أمد الحرب ولحسابات يتطلبها البقاء في المنصب، يمكن ملاحظة الآتي:
-لم تقدّم عمليات الاغتيال "انجازاً": وضع نتنياهو منذ بداية الحرب أهدافاً عدة، يوقف بعد تحقيقها إطلاق النار. لكن عجزه عن تحقيق "النصر الكامل" في قطاع غزة، جعلَه يَلهث وراء صورة انتصار يخرج بها أمام الملأ ويضغط بها في المفاوضات الجارية. ولو أن اغتيال القادة في حزب الله وبقية الفصائل المقاوِمة قدّم له صورة النصر التي يحتاج، لما كان المشهد في إسرائيل على ما عليه اليوم، من انقسام داخلي متزايد يتبادل فيه المسؤولون الاتهامات من جهة، ومن عجز موصوف في الضغط على الوفد الفلسطيني المفاوض في قطر لتقديم أي تنازلات، من جهة أخرى.
-لم يساهم اغتيال القادة في ترميم الردع الإسرائيلي: اذ أن كل عملية اغتيال كان يقابلها رد مدروس وبوتيرة متصاعدة. حيث يكشف خيار المقاومة بالرد على اغتيال قائد وحدة عزيز، الشهيد محمد نعمة ناصر، من النطاق الجغرافي لوحدة نصر، التي اغتيل قائدها الشهيد طالب سامي عبدالله، عن أن قدرات الوحدة لم تصب بأي ضرر جراء اغتيال قائدها. ولم يمنع التصعيد الإسرائيلي المقاومة من اتخاذ قرار التصعيد في المقابل، واستهداف قواعد لم يتم استهدافها من قبل، كاستهدافها لمركز تقني والكتروني في جبل الشيخ لأول مرة منذ عام 1973.
يراكم تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي الأدلة والشواهد على أن الاغتيال لم يكن سبباً في ترميم الردع. وثمة من يعتقد بأن الرد على اغتيال السيد الموسوي جاء بتفجير مبنى السفارة الإسرائيلية بالعاصمة الأرجنتينية مما أدى لمقتل 29 اسرائيلياً، وأعقبه بتفجير مبنى للجالية اليهودية هناك أسفر عن مقتل 85 اسرائيلياً.
وفي الإطار الفلسطيني، ردت المقاومة على اغتيال الشهيد يحيى عياش بتنفيذ 4 تفجيرات بعد شهرين، أسفرت عن مقتل 60 إسرائيلياً وإصابة المئات، وهو ما أعاد وقتها للمشهد نمط العمليات الاستشهادية التي توقفت قبل الاغتيال نحو عام كامل، وأثبت أن إسرائيل لا تملك اليد العليا، وأنها كما تضرِب تُضرَب.
وتقول صحيفة معاريف العبرية في هذا الصدد أن "القضاء على كبار رموز العدو لا يضر بالدافع القتالي للمنظمات الإرهابية. الرغبة في إيذاء إسرائيل لم تضعف، وربما على العكس من ذلك، يتم تعزيز الشعور بالانتقام والرغبة في إيذاء إسرائيل". مؤكدة على أن "القائد الذي تم القضاء عليه سيتبعه قائد آخر، ربما أكثر تطرفاً وأكثر كفاءة. أنت لا تدمر نظام قيادة بأكمله من خلال القضاء على أحد قادته. كنا نعرف القائد الذي اغتيل. لم نعرف بعد الجديد وطريقة عمله". مشيرة إلى أن "المشكلة الرئيسية هي أن رد الفعل العنيف ضد اغتيال أحد كبار القادة أصبح مشروعاً، سواء في نظر العالم أو حتى في أعيننا".
ويأتي في هذا الإطار أيضاً، عملية الاغتيال التي طالت القيادي في حرس الثورة، الجنرال رضا زاهدي في القنصلية الإيرانية في سوريا، والتي استوجبت رداً هو الأول من نوعه في تاريخ الصراع، استهدفت إيران خلاله جغرافيا الكيان بمئات الصواريخ والطائرات المسيّرة، ووضعت دول المنطقة في حالة تأهب قصوى للدفاع عنه.
ويقول المحامي أوريل لين في صحيفة معاريف أن "اغتيال زاهدي كان عملاً أحمقاً يثير أسئلة صعبة. في ليلة واحدة تعرضنا لوابل ضخم من الصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة وأكثر من ذلك". مضيفاً "في اختبار النتائج، لم يفعل اغتيال قائد إيراني كبير واغتيال أحد كبار قادة حزب الله شيئاً للحد من الصراع الحالي، بل على العكس من ذلك، كثفه".
- يُعرف عن الحروب التي تخاض بين الدول، أن اغتيال قائد الجيش أو رئيس الدولة يعني انتصاراً لا لبس فيه على الطرف الآخر وقد يتسبب غالباً في وقف الحرب لصالح مُنفذ عملية الاغتيال. وهذا ما لا يحصل عندما يكون الطرف الآخر جيوشاً غير تقليدية. اذ أن عملية استبدال القائد بآخر لا تحتاج إلى فترة انتقالية. والواقع أن القائد نفسه يكون مشاركاً في اختيار نائبه قبل رحيله. ويشير نائب الأمين العام لحزب الله، الشيخ نعيم قاسم في حديث خاص لموقع "الخنـادق" إلى أن "البنية العسكرية للمقاومة لم تتأثر باغتيال القادة لأنها بنية مؤسساتية قادرة على أن تضخ الدماء الجديدة وقادرة على أن تعطي البدائل". ولفت رداً على سؤال حول كيفية معالجة المقاومة للخسائر إلى أن لدى الحزب "تجربة تزيد عن الأربعين سنة. في هذه التجربة تركيزنا الأساسي على المقاومة كإمكانات واستعدادات وتدريبات وتأهيل كوادر ودورات من هنا أعتبر ان اختيار البدائل أمر متوفر ومتاح".
من جهته، يعتبر المحلل الدفاعي والأمني في صحيفة هآرتس العبرية خلال حديثه لصحيفة تايم الأميركية، يوسي ميلمان، أنه "بعد نصف قرن، يمكن إثبات أن عمليات "القتل المستهدف" -وهي التسمية الإسرائيلية لعمليات الاغتيال- ليست هي الحل للصراع الإسرائيلي الفلسطيني. كل شخص يتم إطلاق النار عليه أو تفجيره، حتى لو كان قائداً كبيراً جداً، يتم استبداله فوراً".
-لم تُعِد عمليات الاغتيال المستوطنين إلى الشمال: اذ أن خفض التصعيد على الجبهة الشمالية لفلسطين المحتلة مرتبط بشكل أساسي بوقف الحرب في قطاع غزة، كما أبلغ الحزب الوسطاء. ولم تغيّر عمليات الاغتيال من قرار الحزب أو جهوزيته.
وتسأل صحيفة معاريف في هذا الصدد: "هل عززت عمليات الاغتيال أمن الدولة وسكانها بأي شكل من الأشكال؟". معتبرة أن "لرد الفعل العنيف الحتمي دائماً ثمن دموي هو ضحايا بين سكان إسرائيل. في الآونة الأخيرة، بعد اغتيال المسؤول الكبير في حزب الله، عانت البلدات الشمالية من وابل كثيف ومركز من 100 صاروخ واستمرار زيادة في إطلاق الصواريخ والطائرات المسيّرة". وهذا ما أجمعت عليه وسائل اعلام إسرائيلية حيث اعتبرت "قوات الجيش في الشمال مثل البط في حقل رماية".
لم يكن اغتيال قيادات في الحزب أمراً مفاجئاً أو مستبعداً. اذ أن لهؤلاء تاريخ في العمل المقاوم وفي ساحات عدة و"ملفهم" وضع على طاولة المؤسسة الأمنية للاحتلال منذ زمن. من ناحية أخرى، فإن الكيان الذي وضعت كل مقدرات العالم في خدمته، تكنولوجياً وأمنياً واستخباراتياً، كان قادراً على الوصول إلى من اعتادوا التواجد في الخطوط الأمامية لا في غرف العمليات الخلفية المحصنة. ونتيجة للحرب اللامتماثلة التي تخوضها حركات التحرر في كل من فلسطين ولبنان والعالم، سيكون اغتيال القادة أمراً طبيعياً.
حتى شهر نيسان/ أبريل أعلن الاحتلال عن مقتل 2723 بين جندي وضابط، يتوزعون بين الجبهة الشمالية والضفة الغربية وقطاع غزة، منهم 4 قادة ألوية و40 قائد فصيل و13 قائد سرية. إضافة إلى 12500 جندي معاق. فيما لم يتم الإعلان عن المئات غيرهم ممن قضوا في المواجهات نتيجة التعتيم الإعلامي الذي تمارسه الرقابة الأمنية الإسرائيلية. في حين أن العقيدة التي تقوم عليها حركات المقاومة ليس بإحصاء عدد القتلى الاسرائيليين بل بطريقة أخرى. نفذ جيش الاحتلال 134عملية اغتيال في الفترة ما بين تشرين الأول/ أكتوبر عام 2000 وتموز/ يوليو عام 2007 أسفرت عن استشهاد 367 شخصية. لكن الأهداف التي قتل لأجلها هؤلاء، وغيرهم من كبار القادة حتى العام الماضي، حققت بالفعل وكان "طوفان الأقصى" الرد الاستراتيجي الذي طعن العقيدة الأمنية والعسكرية لكيان الاحتلال وحفر عميقاً في وعي جبهته الداخلية.