الجمعة 20 تشرين أول , 2023 03:36

أفق المواجهة تعديل المسار الاستراتيجي

الحرب الإسرائيلية على غزة

لطالما طرأت على الصراع بين حركات المقاومة والعدو الإسرائيلي أحداث ومتغيرات، أخذت مسار الصراع نحو مستوى آخر نتيجة تصميم حركات المقاومة على تحقيق الأهداف التي وُجدت من أجلها وعلى رأسها تحرير كامل الأراضي الفلسطينية.

وتباعاً اتسعت رقعة حضور المقاومة في المنطقة وصولاً إلى ما بتنا عليه من محور يدار من غرفة عمليات مشتركة تجمع مختلف الفصائل.  وكانت ذروة حركات المقاومة وتطور الأحداث في المنطقة والعالم وما أثّر ذلك على الدول المهيمنة في المنطقة والعالم وعلى رأسهم الكيان والولايات المتحدة الأمريكية؛ عملية "طوفان الأقصى" النوعية والتي نقلت الصراع إلى مستوى آخر شكل تهديداً مباشراً للمصالح الأمريكية في المنطقة، وتهديداً وجودياً للكيان المؤقت.

تعالج هذه الورقة مسار الصراع بين فصائل المقاومة والكيان المؤقت، من خلال توضيح التراجع الحاصل في المسار الاستراتيجي للكيان والذي تأسس عقب انسحابه عام 2000 من لبنان والتي أوصلت إلى "طوفان الأقصى" اليوم، ومن خلال هذه الورقة، نعالج مسببات هذا التراجع وما مقدار هذه العملية وأهدافها والمحاذير المرفوعة عنها من قبل الإدارة الأمريكية.

مسار التراجع الاستراتيجي

بعد حرب الستة أيام عام 1967، بات الصراع العربي الإسرائيلي في منحى آخر، وراح الإسرائيلي من بعدها يعمل على تثبيت وجوده بعد ضمان سلامة أمنه القومي في المنطقة، وبالرغم من العديد من العمليات المحدودة داخل الأراضي المحتلة تلك الفترة وصولاً لانتصار الثورة الإسلامية في إيران إلا أنها لم ترق إلى مستوى تغيير المسار.

لكن بعد انتصار الثورة في إيران والتي أظهرت معارضتها للهيمنة الغربية المتمثلة بالإدارة الأمريكية وبالتالي الرفض القوي لوجود الكيان المؤقت "يجب أن تزول إسرائيل من الوجود"، بدأت تتنامى معها حركات مغايرة رافضة للكيان مغايرة عن التي سبقتها، وأبزها "حزب الله" في لبنان الذي نشأ نتيجة الاحتلال الإسرائيلي للبنان. وتدريجياً ازدادت قدرات حزب الله كمقاومة على المواجهة، ومع بزوغ حرب الله وتطور المواجهة بينه وبين الكيان بدأت تأخذ المقاومة الفلسطينية الشعبية قالباً مغايراً نتج عنها كلاً من "حماس" و"الجهاد الإسلامي.

تحرير لبنان عام 2000

لم يكن تحرير لبنان عام 2000 فقط لمجد وجود مقاومة للاحتلال، بل كان لتنامي قوة تلك المقاومة وارتقاء مستوى عملياتها بوجه الاحتلال، الدافع الأساسي في إرغام الأخير على الخروج من لبنان، وهذا ما أظهر بوادر أن حزب الله ليس فصيلاً تقليدياً محصور هدفه بإخراج العدو من لبنان، بل لتحفيز كل من هو قادر على انتهاج مساره في العمل وتنمية القدرات والتحول لقوة يحسب لها العدو حسابات كثيرة وتصبح مؤثرة على مسارات الصراع. وبهذا كان لحزب الله دور معنوي ومباشر في ازدياد حركات المقاومة في فلسطين، وكان انتصار عام 2000 المدماك الأول في مسار الصراع مع الإسرائيلي وزواله من خلال التالي:

-الانتصار العربي الأول على الكيان المؤقت وانتهاء عبارة "الجيش الذي لا يقهر".

-التأثير على الوعي لدى الشعوب العربية وإعادة القضية الفلسطينية إلى الواجهة.

-التأثير الإيجابي على حركات المقاومة الفلسطينية.

-ردع الكيان عن مهاجمة لبنان أو التفكير في الرجوع إليه.

-التخوف الداخلي في الكيان من تأثيرات انتصار لبنان.

آثار انتصار عام 2000 على المسار الاستراتيجي:

-تقلص الرقعة الجغرافية للاحتلال الإسرائيلي بعد خروجه من لبنان.

-صعوبة القيام بحرب أخرى على لبنان نتيجة فقدان المشروعية الدولية المُحققة مسبقاً.

-تنامي قوة رادعة للكيان على حدوده الشمالية.

انتفاضة عام 2000

عزز انتصار لبنان عام 2000 من روحية المواجهة لدى الشعب الفلسطيني خاصةً بعد الإحباط الذي حصل نتيجة "اتفاقية أوسلو"، وكان اقتحام رئيس الحكومة الإسرائيلي "شارون" للمسجد الأقصى السبب الرئيس لاندلاع الانتفاضة الفلسطينية في مختلف الأراضي المحتلة، وكان لهذه الانتفاضة أثر كبير على الصراع مع الكيان المؤقت ونقلته إلى مستوى آخر، ومن آثار هذه الانتفاضة على المسار الاستراتيجي:

-عودة القضية الفلسطينية إلى الواجهة الدولية من أوسع الأبواب.

-مقدمات تشكل الخطوط الحمراء حول المسجد الأقصى من الاعتداء عليه.

-التخبط الداخلي في الكيان بين الأحزاب وتراجع مفهوم الوحدة نسبياً بين مكونات المجتمع الإسرائيلي.

-الخطر الذي أمسى يشكله قطاع غزة بعد الخروج منه عام 2005.

-تنامي روحية الانتفاضة لدى الأجيال في الأراضي المحتلة.

أسر جلعاد شاليط

يعد أسر الجندي جلعاد شاليط منتصف عام 2006، نقلةً نوعية في عميلات المقاومة الفلسطينية والانتقال نحو مستوى عمليات ذات أهداف استراتيجية، وتبرز أهمية عملية الأسر في انحدار المسار الاستراتيجي بـ:

-الإصرار الفلسطيني على المقاومة.

-تشكل مقاومة داخل قطاع غزة منظمة ولها أهداف واقعية ونوعية.

-التنامي التدريجي لقوة المقاومة داخل القطاع بعد خروج العدو منه.

-القلق الإسرائيلي من القطاع واعتباره كياناً معادياً.

-ملامح ترسم جبهة أخرى مقاومة للعدو جنوب الأراضي المحتلة وبالتالي بات بين فكين في الشمال (حزب الله) والجنوب (حماس).

حرب تموز

كانت حرب تموز الخطوة الأكبر في تاريخ الصراع مع الكيان المؤقت، والتي نقلت جميع حركات المقاومة إلى مستوى آخر بعدما أظهر العجز الإسرائيلي أمام قوة حزب الله، إذ إن الحرب أظهرت تقدم العقل المقاوم على عقلية الإسرائيلي في إدارة المعركة والتكتيك العسكري والقدرة في الحفاظ على النصر وتحقيقه نهاية الأمر، لذا فإن انتصار تموز كان له الأثر الرئيسي في زيادة انحدار مسار الكيان المؤقت:

-أمسى حزب الله قوة على مستوى المنطقة.

-شعبية حزب الله المتنامية لدى شعوب المنطقة.

-التهديد الكبير الذي بات يشكله حزب الله للداخل الإسرائيلي بفعل الصواريخ.

-معادلات الردع التي ثبتها حزب الله والتي قلصت من مرونة الإسرائيلي في التحرك.

-حزب الله نموذجاً لباقي الفصائل.

-فشل الحكومة الإسرائيلية في الحرب والذي أسس للنقد الذاتي الكبير داخل الكيان والذي أدى تباعاً لتعميق الانقسام بين الأحزاب فيه.

عملية الرصاص المصبوب/ معركة الفرقان (2008-2009)

كهدف إسرائيل اليوم القضاء على حماس، كان الهدف الإسرائيلي الرئيسي عام 2008، القضاء على الحركة ولكن، فشلت هذه العملية بعد عدم القدرة على استعاد الجندي شاليط وإيقاف إطلاق الصواريخ من قطاع غزة وبالتالي فشل الهدف الرئيسي بالقضاء على "حركة حماس"، وعليه هذه العملية كانت دلالة على أن مسار التراجع الإسرائيلي ما يزال قائماً على مختلف الأصعدة.

الحرب على سوريا والحرب على الإرهاب في العراق

التهديد الكبير الذي بات يشكله حزب الله، نتيجة تنامي القوة لديه، والذي أسهم فيها النظام السوري بشكل كبير بسبب التنسيق القائم بينهما وما تشكله سوريا من مظلة حماية ودعم عسكري لحزب الله، جميعها شكّلت لدى الكيان المؤقت والغرب، دافعاً لتشكيل خطر داهم على المقاومة في المنطقة، واستغلالاً لظرف الربيع العربي القائم، شكّلت الأحداث في سوريا فرصةً كبيرة للغرب والعدو الإسرائيلي في استغلالها من خلال كيانات إرهابية ضخمة للسيطرة على سوريا وبالتالي قلب التوازنات في المنطقة لمصلحتهم، ولكن بعد سنين استطاع النظام السوري ومحور المقاومة الانتصار في الحرب على الإرهاب وهذا ما أدى إلى:

-تعزيز العلاقة بين مختلف الفصائل في محور المقاومة.

-التجربة العسكرية الهامة والضخمة التي استفاد منها المحور إزاء الحرب على الإرهاب في المنطقة.

-فشل مخطط إخراج سوريا من محور المقاومة وصمود النظام بوجهه.

أثر انتصار المحور على المسار الإسرائيلي:

-تنامي قدرة محور المقاومة المُهددة للكيان المؤقت.

- فشل المخطط الذي كان قائماً والتغيير الذي أمسى ضرورة بالنسبة للإسرائيلي.

وتوالت الحروب على قطاع غزة خلال هذه الفترة (عامود السحاب- العصف المأكول- الجرف الصامد)، جميعها أثبتت أن تنامي قدرات المقاومة آخذة في الارتفاع وأن الكيان المؤقت أمسى أمام مقاومة باتت هزيمتها أقرب إلى الاستحالة وصولاً إلى معركة سيف القدس التي شكلت الانعطافة الأقوى في الصراع بين الفصائل في قطاع غزة والكيان وأدت إلى انحدار كبر في المسار الإسرائيلي نتيجة الانتصار الكبير الذي حققته المقاومة والتنسيق الكبير بينها وبين باقي محور المقاومة.

 وبناءً على المؤثرات المذكورة أعلاه يمكن تحديد الأبرز منها والمؤثرة مباشرةً على المسار الإسرائيلي المنحدر وهي:

-انتصارات محور المقاومة في مختلف التحديات والحروب.

-بناء القوة لدى المحور واستمراريته.

-الانكفاء العسكري الأمريكي عن المنطقة في ظل الوضع الدولي المتغير والمنهمك بالحروب والصراعات.

-الانقسام في الداخل اليهودي في مختلف المستويات.

طوفان الأقصى

لا تعد عملية "طوفان الأقصى" كسابقاتها من العمليات التي نفذتها مختلف فصائل المقاومة في المحور، بل هي أشبه بقلب الطاولة في المنطقة على الكيان المؤقت تحديداً، إذ إنها أي العملية تجاوزت كل ما كان متوقع من قبل قيادة الاحتلال مما يمكن أن تقوم به المقاومة في غزة، فالعملية ليست مجرد أسر أو خرق أو صاروخ أطلق إلى الغلاف أو الوسط، بل هي خطوة متقدمة بشكل كبير رسمت ملامح صراع إقليمي بين محور المقاومة والكيان، إذ إنها أدت إلى تشغيل مختلف جبهات المحور وتغيير التموضعات. ففي لبنان أمسى الاشتباك بين حزب الله والكيان المؤقت يومي، وفي سوريا انطلقت عدة صواريخ تجاه الجولان، وعلى صعيد العراق فبدأت العمليات ضد التواجد الأمريكي تزداد.

وعليه فإن هذه العملية النوعية أدت إلى تحول في المسار آخذةً إياه نحو مستوى التهديد المباشر للكيان المؤقت، والتهديد هنا يتمثل بالتالي:

-الهجرة العكسية الواسعة نتيجة انعدام الأمن الذي فرضته عملية طوفان الأقصى وتداعياتها.

-تفكك المفاهيم الأمنية للكيان المؤقت.

-التهديد الوجودي الذي ستشكله الآثار المترتبة على العملية وتداعياتها.

وعليه، فإن الكيان المؤقت، بات أمام خيار وحيد:

-ترميم أو تعديل المسار القائم من خلال إيقاف مسار التراجع وتعديل الاتجاه.

تعديل المسار الاستراتيجي

ولأن المؤثرات المذكورة أعلاه نتج عنها الانحدار في المسار وصولاً إلى التحول الذي فرضته عملية طوفان الأقصى، وبناءً على الخيار الوحيد المتمثل بترميم وتعديل المسار الحالي، تصبح أهداف المواجهة على الشكل التالي:

-تحقيق نصر مقابل انتصارات محور المقاومة.

-تدمير قوة المقاومة المتراكمة ابتداءً من غزة.

-إعادة الاهتمام الدولي الغربي بشكل قوي إلى المنطقة.

-توحيد الصف اليهودي.

معالجة هذا المسار يعد أمراً صعباً ومعقداً، فهي أزمة عمرها 23 سنة، وعليه فإن تحقيق الأهداف تحتاج عدم استعجالاً في الخطوات، أي الحاجة إلى الدقة في العمل فالمسألة أمست وجودية وليس موضعية مرتبطة بغزة فقط، ولن يكون هناك حدود أو مدى زمني ولن تكون مجرد ضربة، بل هي مسار عملياتي بعيد المدى.

الإسناد الأميركي

أظهر الدعم الأمريكي السريع، التخوف الكبير لدى الإدارة الأمريكية من التهديد الوجودي على الكيان إزاء العملية والتداعيات المترتبة عليها، وأظهر الدعم المعنوي الكبير الذي تلقاه الكيان المؤقت منها، الإرباك والتخبط الكبير الحاصل لدى الحكومة الإسرائيلية في التعامل مع هذا التغير.

لذلك قررت الولايات المتحدة الأمريكية تقديم كل الدعم وبمختلف الأنواع للكيان:

-دعم معنوي متمثل بالزيارات الرسمية والخطابات والتصريحات.

-دعم عسكري متمثل بتقديم العديد من التجهيزات والقدرات العسكرية بالإضافة إلى الحضور الأمريكي المباشر إلى المنطقة وزيادة زخمه.

-دعم مالي من خلال المشاريع المُقدمة إلى الكونغرس للموافقة عليها والتي تعد مبالغ ضخمة بمليارات الدولارات.

-الدعم الإعلامي من خلال تحريف الوقائع ومساعدة السردية الإسرائيلية باتهام حماس على أنها داعش على الانتشار، ومن خلال تغطية الجرائم الإسرائيلية واتهام المقاومة بأنها المسؤولة عنها (مستشفى المعمداني)

بالإضافة لأنواع الدعم المُقدمة، أقدم الأمريكي على خطوة حساسة في هذا الظرف، يُعول عليها من أجل إعادة التوازن بعد العملية وكي يُخر الإسرائيلي من المأزق بصورة نصر تعيد له هيبته، والخطو تتمثل برفع المحاذير الضاغطة والمانعة لاستمرار العملية الطويلة، باعتبار أن رفعها يتيح للإسرائيلي الحرية في الحركة والخطوات التي سيتخذها، والمحاذير التي رفعها الأمريكي هي:

-الضوء الأخضر في تنفيذ المجازر واللامبالاة للجو العالمي الإنساني وحقوق الإنسان وقوانين الحرب.

-إهمال المخاطر المترتبة على الأردن والنظام الحاكم فيها.

-الترويج لتصفير ديون مصر مقابل القبول بإدخال النازحين إليها لإتمام عملية التهجير خارج قطاع غزة.


المصدر: مركز دراسات غرب آسيا




روزنامة المحور