في السنوات القليلة الماضية، وصف أردوغان ماكرون بأنه "ميت دماغياً"، وأشار إلى أنه "يحتاج إلى علاجات الصحة العقلية وطلب منه الخروج من أفريقيا. للوهلة الأولى، تظنّ أن طلب الرئيس التركي من ماكرون، الخروج من إفريقيا، هو لمجرّد معايرته بالنهب والسرقة التي تمارسها فرنسا في إفريقيا منذ أكثر من قرن، على خلفية خلافات سياسية هنا وهناك. إلا أنّ متابعة نشاطات تركيا في شمال وشرق إفريقيا، والتي وصلت إلى حدّ التدخّل في النزاعات كما في ليبيا، تشير إلى أن لدى تركيا طموحات في تلك القارة، والمسألة أكبر بكثير من استفزازات سياسية أو دينية. لكن بدايةً، يجب فهم المسار الهبوطي للعلاقات بين الدولتين، وصولًا إلى مساعي أردوغان بتقديم تركيا كبديل "غير استعماري" عن فرنسا في الدول الإفريقية المسلمة، كما تحاول الدعاية التركية تظهيرها في الوسائل الإعلامية. لكن أمام ضخامة اللاعبين الدوليين في إفريقيا، لا تبدو طموحات أردوغان منطقية، خاصة أنّه من المتوقّع أنّ الصراع العالمي في المرحلة المقبلة، هو على تلك الرقعة من الكوكب.
كيف بدأت الخلافات بين فرنسا وتركيا؟
بدأت العلاقات الفرنسية التركية في التدهور بالفعل في أواخر عام 2010 لثلاثة أسباب: سوريا وليبيا والنزاع البحري في شرق البحر الأبيض المتوسط.
سوريا
بدأ الخلاف بين تركيا وفرنسا، حول سوريا، في عام 2014 عندما انضمت فرنسا إلى التحالف الدولي لمحاربة تنظيم داعش الإرهابي في شمال سوريا. لم تتقبّل تركيا أن هذا التحالف، كان يتعاون مع وحدة الدفاع عن الشعب الكردي أو وحدات حماية الشعب، ذلك أنها فرع من حزب العمال الكردستاني. وكان لافتًا الانزعاج التركي من الفرنسيين تحديدًا، أكثر من غيرهم ممن شاركوا في التحالف مع الولايات المتحدة ودعموا الأكراد، وتمّ التركيز في الخطابات التركية على أنّ فرنسا كانت قد صنّفت سابقًا حزب العمال الكردستاني حزبًا إرهابيًا، وهي تدعمه اليوم.
تصاعدت التوترات في عام 2019 عندما قرر أردوغان التدخل، بعد يومين فقط من سحب ترامب الدعم الأمريكي للقوات الكردية في شمال شرق سوريا. وعلى الفور تقريبًا، قالت فرنسا إنها تريد فرض حظر الأسلحة على تركيا، وذلك على مستوى الاتحاد الأوروبي. وبعد بضعة أشهر، في قمة حلف شمال الأطلسي، اتهم ماكرون أردوغان بدعم وكلاء داعش، ووصف تحالف أردوغان معهم بأنه "ميت دماغيًاً". ردًاً على ذلك، قال أردوغان إن ماكرون هو الذي مات دماغيًاً، وهدد باستخدام حق النقض، ضد خطة الناتو الدفاعية الجديدة في منطقة البلطيق، لنشر المزيد من القوات في الجناح الشرقي للناتو، ما لم تتوقف بقية الكتلة عن التعاون مع وحدات حماية الشعب الكردية.
ليبيا
في ليبيا، كانت تركيا وفرنسا مرة أخرى على جانبين مختلفين، لكن هذه المرة كانت تركيا على نفس الاتجاه، مثل بقية أعضاء الناتو، في دعم حكومة الوفاق الوطني، التي تتخذ من طرابلس مقرًاً لها، والمعترف بها من قبل الأمم المتحدة. بينما كانت فرنسا، إلى جانب روسيا، تدعم خليفة حفتر وجيشه الوطني الليبي.
بدأت فرنسا في دعم حفتر سرًا في أوائل عام 2015، لكنها اعترفت بذلك علنًا بعد عام فقط عندما قُتل ثلاثة من القوات الخاصة الفرنسية في حادث تحطم طائرة هليكوبتر بالقرب من بنغازي. دعمت فرنسا حفتر جزئيًا تحت حجة أنها قلقة بشأن تهديد الجماعات "الجهادية" التي تسيطر على البلاد، والتي ستجلب عدم الاستقرار إلى غرب إفريقيا الناطقة بالفرنسية. ويبدو أن الفرنسيين خلصوا إلى أن أفضل طريقة لمنع ذلك هي التعاون مع من اعتبروه “رجلًا قويًا" مثل حفتر. لكن بكل سهولة يمكن ملاحظة أن دعم فرنسا لحفتر كان ساخرًا وغير فعال في نهاية المطاف.
بلغت التوترات الفرنسية التركية ذروتها في عام 2020، عندما كان حفتر على وشك الاستيلاء على طرابلس، وبالتالي السيطرة الكاملة على ليبيا. تدخلت تركيا بشكل حاسم نيابة عن حكومة الوفاق الوطني، واضطر حفتر إلى التراجع. ثم حدثت مشادة بين البحرية الفرنسية والتركية في يونيو/ حزيران 2020، عندما استهدفت السفن التركية على ما يبدو سفينة فرنسية، أثناء محاولتها إجراء تفتيش لشحنة سفينة ثالثة يشتبه في قيامها بتهريب أسلحة تركية إلى طرابلس.
النزاع البحري في شرق البحر الأبيض المتوسط
في شرق البحر الأبيض المتوسط، كانت تركيا في الأساس في نزاع معقد وطويل الأمد مع اليونان واثنتين من الدول الأخرى حول أراضيها البحرية، والذي تفاقم بسبب اكتشاف احتياطيات الغاز في المنطقة وسلسلة من الصفقات المثيرة للجدل بين اليونان وتركيا. في عام 2020، عندما انحازت فرنسا بشكل أساسي إلى اليونان وأعلنت أنها ستعزز وجودها البحري في المنطقة، قبل توقيع صفقة دفاع رسمية مع اليونان عام 2021.
أردوغان: ماكرون يحتاج إلى علاج نفسي
حتى أواخر عام 2020، كانت العلاقات الفرنسية التركية نحو مزيد من التدهور، عندما تمّ قتل المدرس الفرنسي صموئيل باتي، على خلفية عرضه على طلابه رسومًا كاريكاتورية للنبي محمد (ص)، اعتبر أردوغان أن ما فعله هذا المدرّس كان بسبب تحريض ماكرون من خطر أوسع للنزعات الانفصالية الإسلامية، وبعدها قام بالدفاع عن حق باتي في حرية التعبير. فأشار أردوغان إلى أن ماكرون "يحتاج إلى علاج نفسي". ثم سحبت فرنسا سفيرها من تركيا، في حين دعا أردوغان إلى مقاطعة البضائع الفرنسية، وهدد بمقاضاة مجلة شارلي إبدو الفرنسية لنشرها رسمًا كاريكاتوريًا مسيئًا.
كل ما في الأمر: شمال وغرب إفريقيا
قبل عامين، بدا الأمر وكأن العلاقات الفرنسية التركية قد تكون في تحسّن. كان لدى ماكرون وأردوغان لقاء ثنائي ودّي في قمة الناتو في يوليو/ تموز 2021، وبعدها في قمة أخرى في بغداد، مما دفع وزير الخارجية الفرنسي إلى إعلان توحيد الناتو، ولو مؤقتًا. لكن عادت العلاقات إلى مسارها الهبوطي عندما بدأت فرنسا، فجأة، في مطالبة الاتحاد الأوروبي، بقبول أوكرانيا وغرب البلقان في الكتلة، على الرغم من عرقلة طلب تركيا لعقود من الزمن. لكن يمكن القول أنّ كل ذلك هو نتيجة وليس سببًا، وكل ما في الأمر يتعلّق بما يحدث في غرب أفريقيا.
على مدى العامين الماضيين، قامت تركيا ببناء نفوذها في شمال وغرب أفريقيا، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى أنه منذ ما يسمى بالربيع العربي، كان أردوغان يحاول تصوير نفسه كزعيم للعالم الإسلامي. وعمل على تعميق العلاقات الأمنية والتجارية مع العديد من الدول الإفريقية ذات الأغلبية المسلمة. محاولًا تقديم تركيا كبديل غير استعماري عن فرنسا المستعمرة. وأثناء زيارته لمالي، سأل أردوغان عن الأعمال التي تسيطر عليها فرنسا في البلاد، مشيرًا إلى أن 95% من سكان مالي مسلمون. وفي الغابون، قال أردوغان أمام حشد من الناس، إن "إفريقيا ملك للأفارقة"، وأننا "لسنا هنا من أجل ذهبكم". وفي العام الماضي، أطلقت تركيا، نسخة باللغة الفرنسية، من هيئة الإذاعة الحكومية، بهدف واضح يتمثل في زيادة نفوذها في أفريقيا الفرنكوفونية.
نفوذ تركيا في إفريقيا
باعت تركيا أسلحة وطائرات بدون طيار إلى مالي وبوركينا فاسو والنيجر، ووقعت شركات التعدين التركية عقودًا كبيرة في مالي وبوركينا فاسو وغينيا. ومن المعروف أن كلّ هذه الدول، حصلت على انقلابات ضد النفوذ الفرنسي في الفترة الأخيرة، وبعيدًا عن الصفقات العسكرية والتجارية، كان أردوغان نشطا للغاية في توطيد العلاقات التركية الأفريقية. في عام 2005، أصبحت تركيا عضوًا مراقبًا في الاتحاد الأفريقي قبل أن يتم ترقيتها إلى دور الشريك الاستراتيجي بعد ثلاث سنوات. ولكن ربما يأتي التأثير الثقافي الأكبر من المسلسلات التركية، التي حققت نجاحا كبيرا في العديد من البلدان الأفريقية - من إثيوبيا إلى السنغال.
وتشارك تركيا أيضًا في الأعمال الخيرية في بلدان مختلفة، بقيادة وكالة التعاون والتنسيق التركية، التي تمول المدارس والمؤسسات الدينية والمرافق الطبية. وفي الصومال، يتمتع أردوغان بدعم شعبي بسبب المساعدات التي قدمها للبلاد. إذ قام ببناء واحدة من أكبر المستشفيات في مقديشو، والتي سميت باسمه. وهناك أيضًا مستشفيات بناها الأتراك في ليبيا وجنوب السودان. حتى إنّ وكالة أنباء BBC، وخلال فترة الانتخابات الرئاسية التركية كتبت: "لماذا تتم متابعة الانتخابات التركية عن كثب في أفريقيا". وخلصت إلى أنّ "تزايد نفوذ تركيا في أفريقيا بشكل كبير على مدى السنوات العشرين الماضية، وأياً كان الفائز في جولة الإعادة الرئاسية فسيتعين عليه التفكير في المكان التالي الذي ستذهب إليه العلاقة مع إفريقيا".
شماعة تركيا لتبرير الفشل الفرنسي
ليس فقط أردوغان من يسعى إلى هندسة الدعاية الإعلامية لطموحاته، يستخدم الفرنسيون أيضًا الإعلام لتعليق فشل فرنسا على شماعة "العدوّ التركي"، التي تحضر في الكثير من الخطابات الشعبوية أيضًا، إذ يروّج هؤلاء إلى أنّ تركيا لا تتنافس مع فرنسا كشريك أمني وتفوز بعقود المعادن المربحة التي كانت تذهب إلى الشركات الفرنسية فحسب، بل يروّج العديد من الدبلوماسيين الفرنسيين أن تقديم تركيا كبديل متعاطف مع الإفريقيين عن فرنسا، قد "ساهم في عدم الاستقرار والحركات المناهضة لفرنسا". لم تكن فرنسا وتركيا تتفقان على أي حال، لكن المنافسة الفرنسية التركية في أفريقيا جعلت العلاقات بينهما أسوأ. وفي الوقت الحالي، يبدو أن تركيا تفوز على فرنسا، لكن هذا لا يعني أنها ستحلّ بديلًا عن فرنسا في دول الانقلابات، كل ما في الأمر أن نفوذها أصبح أقوى من النفوذ الفرنسي المتهالك، في موازين القوى الدولية، التي تتصدرها روسيا والصين تحديدًا في إفريقيا.