اختبرت الإدارة الأميركية واقعاً جديداً في البحر الأحمر بعد أن كانت قد أحكمت عليه قبضتها طيلة العقود الماضية بعد حرب أكتوبر عام 1973. اذ أن الاستراتيجية التي اعتمدتها خلال حرب "طوفان الأقصى" والتي كشفت حجم الثغرات التي زعمت بأنها "استخباراتية" فقط، أثبتت محدوديتها. في حين، أن المعضلة الأميركية في نقطة "اختناق بحرية"، تتجاوز الواقع الراهن، على اعتبار ان بسط السيطرة على الممرات المائية تشكّل ركيزة أساسية في العقيدة الأمنية الأميركية. وبالتالي، فإن وقف الحرب على قطاع غزة لن يُغيّر بالمشهد المستجد في تلك المنطقة سوى وقف العمليات اليمنية، بينما يرسخ وجود قوة إقليمية قادرة عسكرياً على تنفيذ تهديداتها متى أرادت ذلك، وهذا ما تقرأه الإدارة الأميركية على أنه "تهديد" موازٍ "لتهديد حماس" وستبحث في المكتب البيضاوي استراتيجية "اليوم التالي" لكن هذه المرة، لليمن.
طيلة السنوات التي سبقت عام 2014، كانت حركة "أنصار الله"، مجرد "مجموعة متمردة"، يمكن استنزافها بصراعات داخلية كتلك التي كانت تحركها وتمولها السعودية وتشرف عليها مباشرة. مع اتخاذ الحركة قرار القيام بانقلاب والسيطرة على صنعاء العاصمة، دخل اليمن مرحلة جديدة، كانت مبهمة المخرجات بالنسبة للإدارة الأميركية حينها، حتى بات الغبار ينجلي عام 2017، وبدأت القدرات العسكرية اليمنية تظهر إلى العلن مع ارتقاء العمليات بالنوع والعدد والتكتيك.
بعد مرور 7 سنوات من الحرب، كان تطور القدرات العسكرية اليمنية بما يكفي للوصول إلى أي نقطة في جغرافيا المملكة، هو أزمة سعودية بالدرجة الأولى لما تعتبره "تهديداً لأمنها القومي"، وكانت الولايات المتحدة تتخذ دوراً آخر يرتكز على جني ثمار الخلاف، لتوسيع نفوذها وحضورها العسكري في الجزر وبعض المحافظات الغنية بالنفط.
حتى لحظة وصول المفاوضات اليمنية السعودية إلى نقطة متقدمة لوقف الحرب، كانت واشنطن تضغط لتأخيرها تنفيذاً لأجندتها بتصفية الحسابات مع ولي العهد من جهة ومحاولة كسب مزيد من الغنائم من جهة أخرى. وبينما كانت الرياض تنتظر بفارغ الصبر انتهاء الحرب التي استنزفتها على كافة المستويات، كانت الإدارة الأميركية تهندس على مهل تموضعها في البلاد. ونتيجة لذلك، كان أول ما فعلته المملكة مع بدء انخراط صنعاء في الحرب، أنها اتخذت موقفاً محايداً منعت بموجبه واشنطن من استخدام "الأنظمة الدفاعية الصاروخية الأميركية الموجودة على أراضيها ضد الحوثيين". ويؤكد المسؤول الدفاعي الأميركي في حديثه لشبكة سكاي نيوز العربية، ان "الرياض سمحت للطائرات المقاتلة الأميركية بالتزوّد بالوقود فقط في مطارات القواعد العسكرية في المملكة".
خرج الملف اليمني من يدي الرياض وبات شأناً أميركياً بالدرجة الأولى. حتى أن واشنطن لم تقدم على قصف اليمن بهذا الشكل مع بيانات توثق الأهداف والنتائج طيلة سنوات الحرب التسعة.
تدرك واشنطن أن الحركة بعد "طوفان الأقصى" ليست كما قبلها، وقد أصبحت المدمرات التي استحضرتها للردع هدفاً شبه يومي للطائرات المسيّرة والصواريخ المجنحة اليمنية والتي تستعمل للمرة الأولى في التاريخ العسكري لاستهداف أهداف بحرية متحركة.
وما يزيد من حجم المأزق، أن الاستراتيجية المعتادة لتحقيق الأهداف -أي تنفيذ ضربات موضعية للقضاء على "العدو"- لم تسفر عن النتائج المرجوّة، وهي باتت اليوم بحاجة إلى تطوير الاستراتيجية للتعامل مع "الخصم العنيد" الذي لم تستطع القضاء على قدراته وهو لا يزال يافعاً، لا يتجاوز عمر قدراته العسكرية ولايتين لرئيس أميركي.
يقتحم هذا الجدل خلوات المسؤولين الاميركيين الذين فشلوا في تأمين حشد دولي. ويمكن القول أن الخيارات المطروحة على الطاولة، بناء على تاريخ واشنطن في المنطقة، يرتكز على عدد من المسارات، قد يكون بعض منها جزء من استراتيجية "اليوم التالي" الأميركية للبلاد:
-التقاعس الاستراتيجي: وهو الاسم الذي أطلقه مستشار وزارة الدفاع الأميركية والمحلل العسكري السابق في وكالة المخابرات المركزية، مايكل ديمينو. ويقوم على اعلان البنتاغون بأن "هجمات الحوثيين على الشحن التجاري هي مشكلة دولية تتطلب حلاً دولياً"، وأن الولايات المتحدة لم تتأثر بشكل كبير بتعطل التجارة في البحر الأحمر، اذ أن معظم الشحن عبر مضيق باب المندب هو بين أوروبا وآسيا. بناء عليه تقوم بسحب قواتها، ووقف العمل العسكري ضد اليمن، وهذا ما سيجبر الدول الأكثر تضرراً وهي الدول الأوروبية والاسيوية وعلى رأسها الصين، بتبني الاستراتيجية العسكرية او التفاوض مع الحركة لوقف العمليات.
ويقول ديمينو، بأن هذه الاستراتيجية من شأنها أن تبعث رسائل للحلفاء بتراجع نفوذ واشنطن، كما تفتقر معظم الدول الأوروبية لأسطول بحري قوي، وقواعد البحرية القريبة، والقدرة على إجراء عمليات التجديد في البحر على مدى فترات طويلة من الزمن، مما يقلل أهمية هذا الدور. من جهة أخرى، ان نجحت بكين في حل الأزمة، ستكسب نفوذاً دولياً أكبر.
-اتخاذ موقف الدفاع: بهدف إجبار صنعاء على استخدام أكبر عدد من مخزونها الصاروخي والمسيّر في ظل محدودية المعلومات الاستخباراتية لضرب مخازن الأسلحة. وهذا ما سيترتب عليه تكاليف باهظة سياسياً بالدرجة الأولى كالتزام واشنطن بالدفاع عن أي هجوم لاحق، ومالياً نتيجة التكلفة المتواضعة للطائرات المسيرات مقارنة بسعر الصاروخ الأميركي.
-الخيار العسكري: بعد 9 سنوات من الحرب، وقرابة 6 أشهر، من الجهد الحربي للحركة، والمحاولات المستمرة لتقييد قدراتها، يثبت وجوب مناقشة هذه الاستراتيجية اليوم، فشل الخيار العسكري.
-الفتنة والاقتتال الداخلي: اعتمدت واشنطن هذه السياسية في عدد كبير من الدول كسوريا أو اليمن نفسه، الذي بقيت حتى الأمس القريب تقدم حرب التحالف عليه على أنها "حرباً أهلية". لن توفر الإدارة الأميركية هذا الخيار مجدداً في حال لمست جدواه. لكنها ستحوّل البلد إلى بؤرة للجماعات الإرهابية المتطرفة التي لا تزال حاضرة في عدد من المحافظات، وهذا ما سيقوض أمن الخليج بأكمله.
-دعم تشكيل حكومة في الجنوب: على ضوء الواقع الحالي، من سيطرة الحركة على حوالي 70% من الأراضي اليمنية، والخلافات السعودية الإماراتية، والتجربة التي خاضتها مع حكومة عبد ربه منصور هادي، ثم المجلس الرئاسي المؤلف من قادة الميليشيات، سيكون هذا الخيار صعباً.