على مدى عقود تعرض لبنان -جزئياً أو كلياً- لاجتياحات وحروب وعمليات عسكرية إسرائيلية كان هدفها الرئيسي ملاحقة حركات المقاومة اللبنانية والفلسطينية المناهضة للاحتلال الإسرائيلي لأراضي فلسطين ولبنان. اليوم، وبعد عملية طوفان الأقصى، وبسبب الدور الذي قامت به المقاومة الفلسطينية وجبهات الاسناد في لبنان واليمن والعراق، تمّ إخراج القضية الفلسطينية من حالة الركود، وصارت العنوان الأبرز للصراع الإقليمي، فيما يبدو لبنان الاكثر تأثراً داخلياً وخارجياً، وخاصّة أنّ قوى دولية وإقليمية فاعلة (أميركا وإسرائيل) تجد مصلحتها في إشعال هذه الحرب، والتي تُحقّق للأميركي وشريكه الإسرائيلي هدفين استراتيجيين كبيرين: وهما، تنفيذ المشروع الأميركي للشرق الأوسط الذي يهدف إلى تفتيت المنطقة إلى كيانات إثنية وطائفية، ويعطي "الدولة اليهودية" شرعية الوجود في هذه الخريطة الجيوسياسية. وضرب المقاومة اللبنانية، مقاومة حزب الله، التي تحولت إلى رقم صعب في هذا الصراع الإقليمي، في خاصرته الرخوة وهي الجبهة الداخلية اللبنانية.
من هذا المنطلق يُطرح السؤال التالي: هل يحق للبنان التدخل في طوفان الأقصى، والمبادرة استباقيا بإضعاف العدو واستنزافه؟ هل يتمتع لبنان بحق مشروع في دفع الخطر القادم من العدو، والذي يجهّز نفسه ويستعد ويصرّح ويهدد بالتصعيد العسكري تجاه لبنان؟
إذا کان ظهور مفهوم "الحرب الاستباقية" أمراً جديداً على الساحة الدولية، إلا إن البعض يرجعه إلى ما قبل منتصف القرن الماضي، مشيرين إلى الهجوم الياباني على ميناء "بيرل هاربر" الأميركي عام 1941، والعدوان الثلاثي على مصر عام 1956. ويرى آخرون أن العدوان الثلاثي على مصر عام 1956م کان بمثابة حرب استباقية أو ضربة وقائية لصالح فرنسا وبريطانيا اللتين رأتا في تأميم قناة السويس من جانب مصر زمن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر تهديداً مباشراً لأمنهما ومصالحهما ويستوجب ضربة استباقية لإعادة الأمور إلى نصابها من دون سابق إنذار لذلك، فيما زعمت "إسرائيل" أنها ضربة استباقية لمنع مصر من استيعاب صفقة الأسلحة التشيكية التي عقدتها عام 1954 حتى لا تشكّل تهديداً ضدها. إن (الحرب الاستباقية) أو (الوقائية)، ظهرت كنسق جديد في العلاقات الدولية أو كنظرية ذات مواصفات معينة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وظهور القطب الأحادي الامريكي، واتخذت صفة "مبدأ بوش" أو "سياسة المحافظين الجدد" في العلاقات الدولية.
تعرّف الحرب "الاستباقية أو الوقائية" بأنها: "التحول من الرد على هجوم فعلي إلى المبادرة بالهجوم لمنع هجوم محتمل، خاصة إذا تمكنت أجهزة الدولة من اكتشاف نوايا مبكرة بالهجوم لدى العدو بغض النظر عن مظاهر هذه النوايا"، بمعنى أن الاعتماد في الضربات الاستباقية أو الوقائية يكون على نوايا الطرف الآخر أو لمجرد کونه عدواً محتملاً أو قائماً للدولة الأولى التي بادرت إلى هذه الضربة، وسواء قام العدو بإظهار هذه النوايا من خلال تحرك عسكري أو تصعيد سياسي أو لم يظهر. وإن کان يتفق دارسو العلوم العسكرية والمختصون في التخطيط الاستراتيجي للعمليات الحربية مع المفهوم السابق على أنه يخص الحرب الوقائية، إلا أنهم يميزون بين هذا المفهوم السياسي والعسكري في آن واحد وبين الحرب الاستباقية، إذ يعتبرون الحرب الاستباقية مفهوماً عسكرياً – استراتيجياً وليس سياسياً ويخضع لقيادة الجيش وآليات إدارتها للحرب بعد نشوبها أو قبل نشوبها بفترة قصيرة، وملخص وجهة نظرهم أن الحرب الوقائية توجه مبكر عند اكتشاف نوايا بالهجوم لدى الخصم بغض النظر عن نشر وسائل هجومه أم لا، أما الحرب الاستباقية فإنها توجه ضد قوات العدو التي تم نشرها فعلاً في أوضاع هجومية مختلفة استعداداً لهجوم حقيقي، ويبدو أن الفرق عملياً يرتكز في التخطيط لإدارة الحرب بعد توافر النوايا لخوضها لدى أحد الطرفين، ما يعني أن لا خلاف جوهرياً بين المصطلحين السياسي والعسكري من الناحية النظرية، باعتبار أن عنصر القيام بالفعل متوفر في کلتا الحالتين.
يجد مفهوم الحروب الاستباقية أساسه القانوني في مفهوم "الدفاع عن النفس الوقائي" الذي يستخدم أساساً من جانب الدول لتوقى هجمات مسلحة من جيوش دول أخرى، وهو يجد شرعيته من خلال القواعد المطبقة على العمليات الحربية. بالتأكيد أنّ الحق في الدفاع الوقائي المنصوص عليه في ميثاق الامم المتحدة (المادة 51)، يستلزم تحديد الأسباب والظروف والوقائع والافعال العدوانية، التي تتيح للبنان استخدام هذا الحق لحماية أمنه وسيادته على اراضيه.
منذ سنوات طويلة يسعى العديد من الدول في العالم (محور الممانعة للهيمنة الامريكية إلى تفعيل برامج عسكرية دفاعية استباقية لدفع مخاطر العدوان عليها من قبل الأعداء، وقد عملت الولايات المتحدة والقوى الموالية لها والمتحالفة معها في الغرب التصدي للتوسع في المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة حتى لا تسمح للدول من الاستفادة بالدفاع الوقائي كأسلوب قانوني، مع العلم ان القواعد القانونية بالمبدأ هي قواعد مرنة ومتغيرة ومتطورة حسب الظروف وخاصة عند الحديث عن العلاقات الدولية. إنّ الولايات المتحدة وشركائها (الدول الأعضاء الدائمين في مجلس الامن الدولي) لا تريد لهذه القاعدة ان تكون حجة للدول المعادية لها لكي تتسلح وتحمي نفسها، (باتخاذ قرار شنّ ضربات استباقية او وقائية إذا ما توفرت الظروف لذلك) لذلك هي تصر في مجلس الأمن على الدفاع "الشرعي" فقط كرد على فعل العدوان وبشروط محددة يضعها مجلس الأمن، وترفض مسألة الوقاية واتخاذ التدابير الاستباقية مع انه حق مشروع للدول، ويؤيده حق البقاء الذي يعتبر من الحقوق الأصلية للدول وهو قاعدة عرفية ثابتة.
تستعرض هذه الورقة الشواهد الواقعية التي تشير إلى نوايا العدو العدوانية واستعداداته، من خلال عرض التصريحات والتهديدات بالتصعيد العسكري، والاستعدادات والمناورات والتدريبات والتحشيد على الحدود. ثم حق لبنان المشروع في دفع هذا الخطر عن أراضيه وشعبه وأمنه القومي، ومكانته في الإقليم.