إن النصر الإسرائيلي، الذي كان يُعتبر حتمياً، أصبح مستحيلاً في ظل التغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدولية، إلى جانب تطوّر قدرات المقاومة الفلسطينية وقوى محور المقاومة. إذ أنه في بداية الحرب كانت التوقعات تشير إلى أن "إسرائيل" يمكنها تحقيق نصر حاسم من خلال العمليات العسكرية المكثفة. لكن مع مرور الوقت تغيرت هذه النظرة بناءً على عدة عوامل، أهمها إظهار المقاومة الفلسطينية قدرتها على الصمود والتكيّف مع الظروف الصعبة بالإضافة إلى تطوير قدراتها العسكرية بصورة جعلت من الصعب على الكيان تحقيق أهدافه العسكرية بشكل كامل أو حتى تحصيل صورة نصر.
إن الإخفاقات العسكرية لجيش الاحتلال والتداعيات الاقتصادية والأثمان التي تكبّدها الكيان منذ بداية الحرب؛ أدت لصعود أصوات شعبوية ونخبوية كانت صامتة في بداية الأحداث، تترقب تحقيق وعد نتنياهو المتكرر بحتمية النصر المطلق في أسرع وقت ممكن. وقد بدأت هذه الأصوات تطالب بالتفكير من جديد في هذه الحرب ومراجعة جدواها، أهدافها، بصورة بات تأثيرها الشعبي والجماهيري يشكّل خطرًا على حياة نتنياهو السياسية ومستقبل "إسرائيل"، خاصة أن بعضها صادر عن قادة المؤسسة العسكرية. وتظهر استطلاعات الرأي الإسرائيلية مدى يأس المجتمع الصهيوني من إمكانية تحقيق "النصر المطلق" في الحرب الجارية، رغم إصرار نتنياهو على التكرار والتأكيد على عدم وقف الحرب دون تحقيق النصر المتمثل باستعادة الاسرى الإسرائيليين بالقوة والقضاء على حماس في غزّة. وقد نشر معهد الديمقراطية الإسرائيلي للأبحاث في فبراير 2024، استطلاع رأي قال فيه، أن 38.3% من المستطلعة آراؤهم يعتقدون أن هناك احتمالًا "كبيرا جدا" أو "كبيرًا إلى حد ما" لتحقيق "نصر مطلق" مع نهاية الحرب. ويرى نحو 55.3% من المشاركين في الاستطلاع أن هناك "احتمالا ضئيلا إلى حد ما" أو "ضئيلا جدا" للنصر. ووجد الاستطلاع أن ما يزيد على 6% من المشاركين والبالغ عددهم 612 لم يأخذوا قرارا بعد.
في هذه الورقة، عرض لدوافع وتأثير ولحظة انتهاء خطاب حتمية النصر، وتفكيك الرسائل الأمريكية والإسرائيلية التي تحاكي استحالة النصر. كما تعرض العوامل الاستراتيجية والمؤشرات الميدانية التي تقدّم تحليلًا لأسباب هذا الانقلاب. وتقدّم الورقة استشراف للسياسات الإسرائيلية المحتملة في ظل الواقع الجديد الذي يؤكد على استحالة النصر، كما وردّ فعل المقاومة على كل سياسة محتملة. سنكتفي في هذا المقال على عرض السردية الإسرائيلية والآراء العبرية حول استحالة النصر. ويمكنكم تحميل الدراسة بشكل كامل في الأسفل.
السردية الإسرائيلية:
تتشكّل السردية الإسرائيلية الرسمية والنخبوية والتي تتعلّق بفكرة استحالة النصر، من عدّة دوافع أهمّها:
- فشل سياسة الردع: المحللون العسكريون والأمنيون يتفقون على أن استمرار الحرب على غزة يؤكد فشل الكيان في استعادة قوة الردع الفعالة التي تهدف إلى إبطال التهديدات المستقبلية، وتلغي أي خطوة استباقية بهدف إبعاد المواجهات العسكرية أو الحروب المقبلة.
- التحديات العسكرية: تعترف النخب الإسرائيلية بأن تحقيق نصر حاسم في غزة أمر صعب بسبب التحديات العسكرية الأساسية التي تؤثر بشكل مباشر في حسم الحرب وأهمها: ثغرات أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية ليس فقط على مستوى الأفراد والمعدات والتحليل بل أيضًا في التخطيط والتوقع والاستعداد، فشل استراتيجية الدفاع السلبي والقائمة على المساحات الآمنة وقدرة اعتراض عالية للنيران وقدرة المستوطنين على التحمل. كما وسقوط مفهوم العائق الجغرافي ونظرية القوة الهجومية في تحقيق الحسم. بالإضافة إلى الضعف البنيوي المتفشي في العقيدة القتالية، من الناحية الدفاعية، وثقة الجندي بالقيادة.
- المقاومة الفلسطينية: يعتبر الكيان أن المقاومة الفلسطينية، وخاصة حركة حماس، تمتلك قدرة عالية على التكيف والصمود. هذه القدرة تجعل من الصعب على إسرائيل تحقيق نصر نهائي، حيث تحافظ المقاومة على الصمود مقابل القدرة الكلية لجيش الاحتلال. ويعتبر الخبراء الإسرائيليين من الصعب هزيمة كيان غير حكومي عندما يكون لديه طرق إمداد مفتوحة. في هذا السياق، فإن قطع محور فيلادلفيا خطوة ضرورية حتى لو لم تكن كافية: فبدونها ستستمر آلة إمداد حماس في العمل.
- الأهداف السياسية: ترى النخب الإسرائيلية أن الأهداف السياسية في غزة غير قابلة للتحقق بالكامل من خلال العمليات العسكرية وخاصّة أن الأسرى الإسرائيليين يتعرضون للخطر ذاته الذي يتعرض له الفلسطينيين في القطاع.
- التأثير على العلاقات الدولية: تتفق النخب الإسرائيلية على أن الانتقادات الدولية والضغوط الدبلوماسية تجعل من الصعب على الكيان الحفاظ على دعم دولي كافٍ وقوي لاستمرار الحرب حتى تحقيق النصر. في الوقت الذي يعاني الكيان من مواجهة تحديات في الشرعية، على خلفية النهج الدموي التي اتبعته الحكومة، والمسار الانتقامي الذي حدد استراتيجيتها العسكرية في الحرب، وتراجع مكانة الكيان الدولية.
- التأثير على المجتمع الإسرائيلي: يعاني المجتمع الإسرائيلي من زيادة التوترات والانقسامات، فضلًا عن انعدام الثقة بالمؤسسة العسكرية والسياسية في تحقيق الأمن والردع، بالإضافة إلى ارتفاع أعداد الهجرة العكسية وتدهور الوضع الاقتصادي وتضرر الشركات الإسرائيلية (726 ألف شركة إسرائيلية أغلقت منذ بدء الحرب، مع توقعات بارتفاع العدد إلى 800 ألف بحلول نهاية العام) وارتفاع معدلات البطالة، كما وارتفاع الجريمة وغيرها من التأثيرات التي تؤدي إلى انفجار الداخل الإسرائيلي.
الآراء العبرية:
- القناة 12 العبرية: "المؤسسة العسكرية التي كانت تروج فكرة أن الضغط العسكري هو السبيل الوحيد إلى تحقيق أهداف الحرب، توصلت أخيراً إلى الاستنتاج الذي كان واضحاً منذ أشهر: إن استمرار القتال لن يكسر حماس، ولن يعيد الأسرى".
- رئيس شعبة الاستخبارات سابقًا تامير هايمن: "علينا الاعتراف.. "إسرائيل" ليست في طريقها لتحقيق الانتصار المطلق".
- اللواء في الاحتياط طال روس لـ "قناة كان": حصل هنا (في غلاف غزة) الفشل الأكبر لـ "إسرائيل". حماس بوضعها اليوم هي لم تهزم ولم يتم القضاء عليها.
- كتب الوزير السابق وأحد قياديي حزب العمل السابقين، حاييم رامون لمعاريف: نحن الآن لسنا على بُعد خطوة واحدة من النصر، بل على بُعد خطوة واحدة من هزيمة استراتيجية. صحيح أن هذه الحقائق صعبة ومخيفة. فالوضع الأمني لدولة إسرائيل هو الآن في أدنى مستوياته. وأمامنا أيام صعبة، ويبدو أننا سنتورط في حروب أُخرى في الأعوام المقبلة. لكن كذب السياسيين والضباط الكبار علينا، يمنعنا من النظر إلى الواقع بصورة صحيحة.
- صحيفة "يديعوت أحرونوت" العبرية: مسيرة الحماقة السياسية والأمنية التي قادت "إسرائيل" إلى 7 أكتوبر لم تتوقف عند هذا الحد؛ بل تحوّلت إلى خطاب أصم وثرثار يتكون أساسًا من شعارات جوفاء من قبيل "النصر المطلق" و"رفح الآن". منذ 7 أكتوبر لم يعد بنيامين نتنياهو "سيد الأمن"، لكنه نجح في سجن الإسرائيليين بمعضلة أن وقف الحرب يعني الخسارة، وفي الواقع لا يوجد "نصر كامل".
الخلاصة
إن النصر الإسرائيلي، الذي كان يُعتبر حتمياً، أصبح مستحيلاً في ظل التغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدولية، إلى جانب تطوّر قدرات المقاومة الفلسطينية وقوى محور المقاومة. إذ أنه في بداية الحرب كانت التوقعات تشير إلى أن "إسرائيل" يمكنها تحقيق نصر حاسم من خلال العمليات العسكرية المكثفة. لكن مع مرور الوقت تغيرت هذه النظرة بناءً على عدة عوامل، أهمها إظهار المقاومة الفلسطينية قدرتها على الصمود والتكيّف مع الظروف الصعبة بالإضافة إلى تطوير قدراتها العسكرية بصورة جعلت من الصعب على الكيان تحقيق أهدافه العسكرية بشكل كامل أو حتى تحصيل صورة نصر.