عملت الولايات المتحدة طيلة عقود، على هندسة صورتها الإعلامية بشكل يضمن "جذب" الشعوب إلى سرديتها دون اضطرارها لتقديم الكثير من الدلائل. لكن الرغبة الأميركية الجامحة في استخدام الاعلام كميدان موازٍ للاستحصال على "التعاطف والشرعية"، أعطى للحرب وجهاً آخر هو اليوم مصدر قلق للرئيس الأميركي الذي يُحصي كل صباح عدد الأصوات الانتخابية التي يفقدها، مع استمرار دعم واشنطن لإسرائيل في إبادة الشعب الفلسطيني التي تنقل على الهواء مباشرة. لم يشف العالم بعد من صور الأطفال حديثي الولادة في غزة، ما أعاد إلى الذاكرة صورة "فتاة النابالم". وهذا ما يجعل واشنطن بوجه الرأي العام العالمي هذه المرة، ويعيد إلى الآذان شعار "الموت لأمريكا".
بعد سيطرة قوات الاحتلال على مستشفى الشفاء، أسرعت السلطات الإسرائيلية لجلب كبرى الوكالات الإخبارية ووكالات الأنباء لتصوير "أسلحة حماس" المزعومة التي تم ضبطها داخل المستشفى. في تبرير يستهدف منحيين، الأول الجانب الأميركي الذي بدأ يظهر نفاذ صبره من الجرائم الإسرائيلية بحق المدنيين والأطفال والتي تؤثر على البيت الأبيض بشكل مباشر، والأخر هو الرأي العام العالمي. لكن ذلك لم ينجح، وسط سيل من الانتقادات التي وجهت إلى "إسرائيل" بأنها عمدت إلى ادخال الصحفيين لترويج سرديتها ثم عجزت عن إيصال الوقود والحاضنات للأطفال حديثي الولادة.
ثمة اجماع عالمي على عدم قدرة كيان الاحتلال على شن حرب ما دون الدعم الأميركي وعلى مختلف المستويات العسكرية اللوجستية والاستخباراتية إضافة للسياسية والإعلامية على حد سواء. وهو ما تقوم به الإدارة الأميركية بالفعل في قطاع غزة منذ 8 أكتوبر وبدء الحرب. كل ذلك، جعل من الولايات المتحدة المدان الأول في جرائم الكيان. خاصة وأن تل أبيب لم تستطع حتى اللحظة تحقيق أي انجاز يمكنها من تقديمه كمبرر لما يمكن اعتباره "خسائر جانبية".
من ناحية أخرى، أصبح الانقسام المتزايد داخل الحزب الديمقراطي حول تعامل الرئيس جو بايدن مع الحرب مشكلة سياسية خطيرة لبايدن، والذي يواجه صعوبة في جذب الناخبين الشباب وتنشيط قاعدة حزبه.
ويقول استراتيجيون ديمقراطيون ونشطاء تقدميون إن خيبة الأمل المتزايدة بين الليبراليين، وخاصة الديمقراطيين الأصغر سناً والناخبين من الأقليات، بشأن الحرب والصور المصورة للضحايا المدنيين الفلسطينيين يمكن أن تضر بإقبال الديمقراطيين في انتخابات عام 2024.
وتشير صحيفة واشنطن بوست في هذا الصدد، إلى ان "الرأي السائد في جميع أنحاء الشرق الأوسط هو أنه بينما تقوم إسرائيل بالقتال، فإن هذه حرب أمريكية. بدون الغطاء الدبلوماسي والذخائر عالية التقنية التي توفرها الولايات المتحدة، يقول المنطق، لن تكون إسرائيل قادرة على تنفيذ العملية الضخمة التي شنتها في غزة "للقضاء على حماس" التي قال مسؤول في الأمم المتحدة هذا الأسبوع إنها تسببت في "مذبحة كاملة ومطلقة". وتضيف نهى بكر، أستاذة مشاركة في العلوم السياسية في الجامعة الأمريكية في القاهرة: "في لحظة مهمة جدا من التاريخ، عندما وضعت المبادئ على المحك، خذلت واشنطن العالم".
"يحتاج بايدن إلى أن تنتهي الحرب ويتوقف تدفق الصور من أحياء غزة" يقول بوب بوروساج، وهو ناشط تقدمي بارز ومدير مشارك لحملة من أجل مستقبل أمريكا ويضيف "ما حدث هو أن نتنياهو فجر بايدن بشكل أساسي... سياسة الإدارة لعناق نتنياهو والتحدث أولاً سراً والآن علناً حول ضبط النفس ولكن دون أي ضغط لتنفيذ ذلك هي خطأ". ويوافق متابعون غربيون على هذا، معتبرين أن شعار "الموت لأمريكا" بات مستساغاً لدى شريحة واسعة من شعوب المنطقة، من جديد، على ضوء ما يجري.
لماذا "فتاة النابالم"؟
أصبحت الصورة المرعبة للأطفال الفارين من هجوم النابالم المميت صورة مؤثرة ليس فقط لحرب فيتنام ولكن للقرن 20. الصورة التي توثق تصاعد الدخان الداكن خلف الأطفال الهاربين من القصف ومنهم مَن كان مشتعلاً.
التقطت الصورة في 8 حزيران/ يونيو 1972، ووثقت الصدمة والعنف العشوائي للصراع الذي أودى، وفقاً لبعض التقديرات، بحياة مليون مدني أو أكثر. على الرغم من أن الصورة تحمل عنواناً رسمياً "رعب الحرب"، إلا أنها معروفة باللقب الذي يطلق على الطفلة البالغة من العمر 9 سنوات التي أصيبت بحروق شديدة، والتي كانت تركض عارية: "فتاة النابالم".
يقول بعض المؤرخين، أن الصورة سرّعت نهاية حرب فيتنام، التي استمرت حتى عام 1975 وشهدت سيطرة الشيوعيين في نهاية المطاف على جنوب البلاد المدعوم من الولايات المتحدة. بعدما أثرت بشكل كبير على الرأي العام الأميركي، الذي انقلب بالفعل ضد تورط الولايات المتحدة في الصراع (كان الوجود العسكري الأميركي في جنوب فيتنام، بعد ما يقرب من عقدين من الزمن، قد تم سحبه بالكامل تقريباً تزامناً مع تاريخ التقاط هذه الصورة).